«المكون المسلم جزء من الحل لا جزء من المشكلة»، هذا ما يراه العلّامة فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه، رئيس «مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي»، رئيس «منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة»، ويجيء في زمن كثر خطباؤه من دعاه التجديد، وقل فيه العاملون على ذلك، ليقدم بشخصه أنموذجاً برّاقاً يتعامل بمنطقية وعقلانية وحكمة مع الحالة بالغة التعقيد التي وصلت لها المجتمعات الإنسانية بشكل عام، والإسلامية خاصةً، معتلياً منصة إعمال العقل والتدبر قبل الإطفاق على طرائق لا منهجية، وقديمةً من جني ثمار علماء أجادوا طرحها، ولكن لضرورة ارتبطت بزمنهم وانتهت الحاجة لها بانقضاء ذلك العصر، فللشريعة الإسلاميةِ ثقل وثروة أفرغت من مضمونها بفعل إدارة بعض الدعاة التي أثبتت قصوراً حاداً في مهمتها من خلال تعطيل الاجتهاد والتجديد، وما يمثلانه من جسر وحيد وطريق قويم في مواكبة الدين الإسلامي للتحولات الاجتماعية المتسارعة، القضية الحقيقية التي أدركها العلّامة «بن بيه»، مفسراً بذلك التحول الجذري الذي طرأ على فسيفساء الرقعة الإسلامية بمجالاتها الاجتماعية والسياسية بتجربة لم يسبق لها خوضها مسبقاً.
مشروع اجتهاد النضوج الفكري والاستيعاب العابر للأزمان والحضارات الذي يقدمه الشيخ المجدد ابن بيه كأنموذجٍ فريد، لا يحتمل الانتظار والوقوف على عتبة «الحجج» والمراوغة أكثر، فقد بين خطة متناغمة الحيثيات متراصة النسيج، من خلال انطلاقه من الإشكاليات التي تدور حول تجديد مناهج التفكير الشرعي وسبل الاستنباط في المرتبة الأولى، من خلال الفهم السليم لما يعنيه «التجديد» ومراجعة أدواته، مشبهاً عملية التجديد بالبناء، إذ أن لكل بناء أدواته الخاصة به، كما للتجديد، وهنا ينبه بحنكة عن الجانب المفتقر للاهتمام من رجالات هذا الدين ومنابره، فلمَ ندأب لاختراع آلات وأدوات متقنة الإنتاج متعددة التقنيات، باستخدام أرفع وأرقى الخامات لتلبية السلع الاقتصادية والترفيهية، ونغفل عن صناعة استحداثات ضرورية ليس لسلع بل للتأصيل والتأسيس لحضارة وفكر ونهضة ومواكبة وريادة وبناء أجيال نقية من ملامح وباء التطرف والغلو الذي يحوم حولها؟!
هذا العالِم والعلّامة الفذ، والذي لا أستطيع إخفاء ما يعنيه لي من قدوة و أنموذج حضاري، ومن صورة تنبض بالخير والإرادة، لم يقف على عتبات الثمانينيات من عمره، بل ما زال يستمر بزخرفة المشروع الحضاري، بدأب المجتهد المحنك الحريص على إنجاح مشروع الإصلاح الديني، الذي أراه مأسسةً تبنى عليها باقي النجاحات والإصلاحات، فهي البذرة الدافعة بالإنسانية للسير على نهج الحق بلا شائبة تشوبها، ولربما يتجلى ذلك من خلال مواقفه وآرائه، فعلى سبيل المثال لا الحصر تصريحه بضرورة كسر حاجز الانغلاق والعزلة، والدعوة للانفتاح عل التراث الإنساني، ومدحه للموروث الفلسفي وما حمله من حكم للبشرية، مع إشارته لضرورة الأخذ بالنافع منها فقط، وما ينتج عنها من تنظيم وسمو للأفكار والآراء وسعة وإذكاء للرؤى.
بين طيات جلبابه الأبيض، حمل للمجتمعات المسلمة وغيرها أفكاراً أكثر نصوعاً مما يرتدي. وأجمع تلاميذه ممن رافقوه خاصةً، على ما عكسته مواقفه من ذكاء واطلاع وسعة علم ورحابة في نهجه وطرحه، ومن ذلك ما عاشه مستمعوه من ذهول، ذات مؤتمر في إحدى الدول الأوروبية، حين أطرقت الآذان مصغية لورقته المشبعة بقيم ومعاني التعددية، وتبيان حكمة الله بها، وضرورتها، لينتهي بالإشارة للوحة معلقة على مدخل القاعة كان قد سأل أحد الوزراء قبل دخوله عن راسمها، وهو «بيكاسو»، ليحرك حس التفكر، مبرزاً براعته في الإقناع بالحق، سائلاً الحضور، عمّا إذا كانت ستعجبهم ذات اللوحة لو أنها خُطّت بلون واحد! ليترك بأذهانهم جميعاً صورة حية لا يمكن أن تنظر للتعددية إلا كمقياس إثراء وتكامل وبهاء.
ما حمله العلماء على اختلاف مناهجهم وتوجهاتهم يمثل رسالة معينة، وما حمله العلامة ابن بيه في جعبته هو نداء ضرورة، فاتحاً الحيز للعلماء على اختلاف الحقبة الزمانية أو المكانية، بهدف إعادة رسم مقاصد الشريعة بما يلبي حاجات المجتمعات البشرية، تحقيقاً لحكمة الشارع في تشريعها، والوصول لأقصى مستوى من التطور المعرفي والواقع الدولي، إزهاراً وازدهاراً من روح الشريعة وقواعد التشريع، بشرط التمسك بقواعد أصول الفقه، ودرء التقوقع في «المقاصد» كما حددها فلان أو فلان – مع خالص احترامنا وتوقيرنا لعلماء الشريعة – ولكننا علينا أن نعي بأننا بصدد تطور راسٍ لا يتعرض للتحجر أوتحجيم الفكر، مما يحتم حاجتنا لمنهج الشيخ المجدد ابن بيه كمشروع من الطراز الأول.