مازالت الجماعة السياسية البريطانية غارقة إلى أذنيها في معضلة البريكسيت ما بين الخروج من عدمه، فإذا حُسِم الخروج بقيت معضلة تعديل الاتفاق، وهو مستحيل أوروبياً، أو الخروج من دون اتفاق، وهو كارثة بريطانياً، وإذا لم يُحسم ما بين مد المهلة الزمنية لتطبيق المادة 50 أو إجراء استفتاء ثان. صحيح أن لهذه المعضلة أسبابها الأوروبية والبريطانية لكني أود هنا تسليط الضوء على أسبابها الكامنة في العملية الديمقراطية، وليس هناك شك في أفضلية الديمقراطية كنظام حكم، لكن هذا التحليل ينطلق من إدراك أن نتائج الديمقراطية ليست بالضرورة خيراً دائماً كما في المجتمعات المنقسمة التي تكون الديمقراطية فيها آلية لعدم الاستقرار نتيجة توزع القوة السياسية بين جماعات متناحرة أو المجتمعات منخفضة الوعي التي قد لا تأتي فيها الانتخابات بأفضل العناصر إلى السلطة.
ولا شك أن الخروج من معضلة البريكسيت أمر بالغ الحيوية لكل من بريطانيا وأوروبا، لأن الخروج غير الآمن سيسبب لبريطانيا مشاكل حقيقية، ولأن الخروج بذاته نذير سوء للاتحاد، إذ قد يكون بداية لعملية تفكيك خاصة في ظل صعود اليمين المتطرف وارتفاع نسبة الراغبين في الخروج في بلدان أخرى (بلغت النسبة قبيل إجراء الاستفتاء في يونيو 2016 قرابة النصف في إيطاليا وفرنسا وأكثر من الثلث في ألمانيا)، ولا تقل أهميةً عن تداعيات الخروج على كل من بريطانيا والاتحاد الأوروبي دروسُه بالنسبة لضرورة ترشيد العملية الديمقراطية في إدارة مثل هذه الأزمات المصيرية.
وبدايةً، يثور السؤال حول صواب قرار رئيس الوزراء البريطاني السابق بطرح مسألة الخروج على استفتاء شعبي لكي يرضي الاتجاهات المطالبة به، وأغلب الظن أنه كان يُقَدر أن الاستفتاء سينتصر لوجهة نظره المؤيدة للبقاء، وهكذا فسوء التقدير يُحسب عليه، لكن ظني أنه وقع في سوء تقدير آخر لعمق الانقسام حول الخروج، بحيث لا يُحَل باستفتاء لأنه يتعلق بمسألة مصيرية تتعلق بهوية بريطانيا ومكانتها وتحالفاتها الدولية، وكلها أمور لا يصح فيها الاستقطاب الحاد، خاصة بالنظر لطبيعة التكوين المعقدة لبريطانيا كدولة، مما يجعل الانقسام حول البقاء في الاتحاد الأوروبي أو الخروج منه مهدداً لبقائها كدولة موحدة، وقد رأينا اختلاف الموقف الاسكتلندي وما أثاره من احتمالات العودة إلى المطالبة باستفتاء جديد للانفصال عن المملكة المتحدة. وليست بعيدة عن ذلك تعقيدات المكون الأيرلندي في المملكة والذي يعد الشرط الخاص بالحدود المفتوحة بينه وبين أيرلندا الجنوبية عقدة العقد في اتفاق الخروج.
ويعتقد البعض أن «نظرية الدومينو» قد تنطبق إذا وقع احتمال انفصال اسكتلندا، إذ قد تتبعها أيرلندا، والأرجح بعد ذلك أن تفعل ويلز الأمر نفسه. وكما تنبأ كاريكاتير غلاف مجلة بريطانية ساخرة قبيل الاستفتاء، أظهر الرئيس الأميركي آنذاك (أوباما) وكان من مؤيدي البقاء، يحكي حكاية للأمير جورج ابن الأمير ويليام ينهيها بقوله: «ثم غادرت بلدك الاتحاد الأوروبي ولم يسمع بها أحد مرة أخرى». وتتسق هذه الحكاية الساخرة مع التعبير الذي راج قبيل الاستفتاء وبعده ومازال يُستخدم «من بريطانيا العظمى إلى إنجلترا الصغرى».
ما البديل إذن؟ أتصور أن البديل الأفضل كان أن يدعو كاميرون إلى حوار وطني شامل تشارك فيه كافة الفعاليات السياسية في المملكة، حيث تضمن له الديمقراطية أن يكون معبراً عن الاتجاهات الحقيقية للأحزاب والرأي العام، خاصة وقد انتقد الحوار الذي سبق الاستفتاء بأنه كان شعبوياً قصير الأمد لم تتضح فيه الحقائق كافة، ولا ينتهي هذا الحوار إلا باتجاه محدد لأغلبية واضحة تصلح للمضي قدماً في طريق البقاء أو الخروج، ويرفع البعض الآن مطلب إجراء استفتاء جديد، وهو مطلب يعارضه آخرون لأن الشعب قد قرر، وهذا في تقديري غير صحيح لأن الشعب قد يغير توجهاته في الانتخابات كل أربع سنوات، وقد غيرت بريطانيا موقفها من الاتحاد الأوروبي غير مرة ما بين رفض الانضمام ثم طلبه والآن السعي للخروج، لكن معضلة الاستفتاء الجديد أنه حتى لو اختار البقاء سوف يكرر معضلة الانقسام، لذا فالأصوب عندي هو مد أجل المرحلة الانتقالية بموجب المادة 50 حتى يتبلور اتجاه أكيد لأغلبية واضحة تقي بريطانيا شر الانقسام.