«إذا عرف أحدكم أين يذهب الربيعُ فليطلب منه البقاء». هذا مثل صيني لا يفتأ يتردد في ذهني منذ رأيتُ أول صور في التاريخ للجانب غير المرئي من القمر. الكاميرة السعودية التي حملها صاروخ صيني إلى القمر، التقطت صورة «سلفي» ظهرت فيها الكرة الأرضية، من جانب أفريقيا، والسعودية، والبلدان العربية. وليمكث ربيع مهندسين سعوديين في «مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية» في الرياض، الذين صنعوا بأنفسهم كاميرة وزنها نحو نصف كيلوجرام، وحجمها نحو عشرة سنتمترات مكعبة، ومتينة بما يكفي لمواجهة ظروف الانطلاق الفضائي، على متن صاروخ صيني، وقادرة على التقاط صور كهروضوئية للجانبين المعتم والمضيء للقمر، وقياس مسافات المدار القمري. ومع نهاية العام الماضي انطلق «صاروخ المسيرة الكبرى» الصيني من مركز الإطلاق الفضائي «جواكوان» يحمل قمرين صنعهما مهندسو «المدينة» للقيام بأعمال الرصد والاستشعار عن بعد لموانئ السعودية والخليج، ومتابعة سير ناقلات النفط والشحن عبر العالم.
و«من شافنا بعين نشوفه باثنين»، مثلٌ سعودي يرسم حجم مساهمة السعودية في «الحزام والطريق» الذي يربط نحو 70% من سكان الكرة الأرضية، ينتجون نصف إجمالي المنتوج العالمي، ويملكون ثلاثة أرباع احتياطيات الطاقة العالمية. وتماثل السرعة القياسية لعمل مهندسي الفضاء السعوديين سرعة بناء العلاقات السعودية الصينية، التي بدأت عام 1990 بالاتفاق على تبادل السفراء، ووضع وتنفيذ عشرات الاتفاقات السياسية والاقتصادية والتجارية والصناعية والثقافية، وتأمين الطاقة والأمن الإقليمي والعالمي.
و«مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية» مؤشر مهم على حجم السعودية، ووتيرة نموها القافزة، وعندما زرتها عام 2014 وجدتُها أصبحت في آن مركز البحث والتطوير الوطني، والوكالة الاستشارية في العلوم والتقنية، ومُجمَّع مختبرات ومعاهد الطاقة الشمسية والبيئة ومسح البصمة الوراثية «الجينوم» للجمل والنخلة، وورشة الأقمار الصناعية، والطائرات دون طيار، و«السوبر كمبيوتر» (سنام) الذي احتّلَ المرتبة 52 في قائمة 500 أقوى «سوبر كمبيوتر» في العالم. وتُصدر «المدينة» موسوعات وكتباً علمية للجمهور الواسع، بينها «طبيب العائلة»، والطبعة العربية لاثنتين من أبرز الدوريات العلمية العالمية، «نيتشر» الإنجليزية، و«سيانس آفي» الفرنسية، موضوعتين مجاناً على الإنترنت. وشاركت «المدينة» دار النشر العلمي «سبرينغر» في إصدار مجلات بحثية دولية متخصصة، بينها «علوم النانو التطبيقية»، و«العلوم البتروكيماوية التطبيقية»، و«علوم المياه التطبيقية». وتعاونت «المدينة» في «مسبار الجاذبية -ب» مع جامعة ستانفورد لاختبار توقعين علميين لإينشتاين، ووضع مشروع لحساب سطح مرجعي لقياس الارتفاعات في المملكة باستخدام تقنيات قياس فضائية متعددة.
ويعرض إنجازات «المدينة» العلمية والتقنية بذكاء ومرح «برنامج المدينة الإذاعي» المباشر، كل اثنين وأربعاء، ما بين 5 و6 مساءً بتوقيت مكة المكرمة. ويشارك شباب وشابات «المدينة» في البرنامج الإذاعي الذي يعرض على «الإنترنت» أيضاً. و«هذا خبز أيدينا»، حسب المثل السعودي، وأزكى ما فيه نمو عدد ونوعية العاملين في المدينة. فعندما دُعيتُ عام 2005 لعرض بحث أعددته لحساب «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» عن «نساء العلم في البلدان العربية»، لم يكن في «المدينة» سوى امرأة واحدة مُعارة من «جامعة الملك سعود». وأدهشتني عام 2014 القفزة في نسبة السعوديين التي بلغت 92% بين مجموع العاملين في المدينة البالغ آنذاك 3530، و70% من السعوديين باحثون، و18% باحثات يتولى بعضهن مسؤوليات في «مركز تقنية أمن المعلومات»، وفي «بادر» وهي «الحاضنة» المالية والتقنية لمشروعات الموهوبين. وسعوديات في عمر الورود يعملن في «مركز الفضاء والطيران السعودي»، الذي طوّر 13 قمراً صناعياً، و12 طائرة «درونز» للاستشعار عن بعد، والاستقصاء الجيولوجي، والأمني، والاتصالات، والبحث العلمي. وكنتُ أتابع تجميع الفتيات السعوديات أجزاء «الدرونز»، عندما انطلقت ذاكرتي تردد بيت الشعر الصيني «إنهن لا يشبهن الزنابق بل الزنابق تشبههنّ».