لا تنزل القرارات السياسية على رؤوس الناس مباشرة متداخلة ومتفاعلة مع مصالحهم الآنية الخالصة، إنما يأتي تطبيقها دوماً عبر مؤسسات إدارية، تتفاوت في قدراتها وحجمها، ومستوى المسؤوليات الملقاة على عاتقها، وصورتها المرسومة في أذهان المتعاملين معها، أو المترددين عليها. فالمساحة التي تشغلها «السياسة العامة» في أي دولة معلقة في رقاب الإداريين بالدرجة الأولى، ولذا فإن أي فراغ يطال الإدارة، يمكن أن يمتد ليشكل جزءاً من الفراغ السياسي، حتى لو كان بطريقة غير مباشرة، بل إن الفراغ الإداري قد يمس السياسة في مراتبها العليا، إذ ينظر إلى القيادات السياسية على أنها قيادات إدارية في الوقت نفسه، فالملك الذي يملك ويحكم، ورئيس الجمهورية، ورئيس الحكومة ووزراؤه، هم ليسوا رجال سياسة فحسب، بل مديرين كبار أيضا.
ويأخذ الفراغ الإداري أشكالا عدة، حسبما يرى الباحث خالد المخلفي، فهو يتجسد في مدير متردد، لا يتخذ قرارات حاسمة، وقد يطول تردده فتتعطل مصالح الناس، ويبدو الأمر وكأنهم يتعاملون مع «لا شيء»، في الفترة الزمنية التي يحل فيها التردد. ومثل هذا التردد قد يستمر في تنفيذ القرارات أيضا، ويصبح نوعاً من التباطؤ.
وقد ينجم الفراغ عن المركزية الشديدة، حيث يوجد مديرون يميلون إلى وضع كل السلطات في أيديهم، ولا يحبذون تفويض غيرهم بها، فإن غابوا لأسباب عدة، تركوا وراءهم فراغا، لا يستطيع أحد أن يملأه، وربما لا يفكر أحد أساسا في القيام بهذا إن كان هؤلاء المديرون لهم سطوة، ويبطشون بكل من يخالفهم الرأي أو الموقف. ومن بين هؤلاء من يربط سير العمل تماما بحالته النفسية، فإن تعكر مزاجه قامت العراقيل في الطريق.
وهناك صنف من المديرين يرفع شعاراً قال به النُحاة وهو: «سَكِّن تسلم»، حيث ينفرون من التطوير والتحديث، خوفا من الجديد، وتآلفا مع القديم، لأن في هذا سلامتهم، وضمان بقائهم على كراسيهم أطول فترة ممكنة. وبعض هؤلاء قد يؤمن بما هو أفدح قائلا: «من يعمل كثيرا يخطئ كثيرا»، ولهذا يركنون إلى إبطاء العمل، ولا يخرج من بين أيديهم إلا أقل القليل. وهناك من بينهم أولئك الذين يعتقدون أن الأفضل أن يتركوا الأمور تمضي على أعنتها، فيفعل مرؤوسوهم ما يشاؤون، وهم في مأمن من العقاب. ومثل هذا النوع من المديرين يصنعون فراغا إداريا كبيرا، حيث يتحولون إلى مجرد قلائد زينة، بينما يبقى القرار معلقا. ومنهم من يعاني من رهاب المنصب فيميل إلى الرضاء بما هو فيه، متخليا عن الطموح الطبيعي لأي إداري بأن يسلك طريقه إلى الترقي والترفيع. ومثل هذا الموقف يقود صاحبه بالتتابع إلى عدم بذل الجهد الكاف في العمل، وفقدان القدرة على الإبداع.
وفي بعض الأحيان يكون الفراغ الإداري أفضل من التسيير إلى الهاوية. فخلو منصب من مدير كفء، أو وجود مدير غير مبدع أو متباطئ أو مجرد واجهة شكلية، يبدو أقل ضررا من وجود مدير قد يقود المؤسسة إلى الضياع.
وملء الفراغ الإداري يحتاج إلى جهد متعدد، بعضه ينصرف إلى سن القوانين والتشريعات الإدارية، سواء على مستوى القانون العام أو اللوائح الداخلية للمؤسسات، وبعضه يذهب إلى اختيار الشخصيات الكفء لتمثل بديلا للسلطة الإدارية القائمة، فإن خلا منصب، وجد على الفور من يشغله، ويكون مُمَّكنا من أداء المهام الموكلة إليه باقتدار. وهذا يقتضي بالطبع القيام بتدريب مستمر للكوادر الإدارية بغية تجهيزها لتولى المناصب الإدارية الرفيعة.