تعود أولوية النظر على العمل إلى نزعة معرفية إشراقية صوفية خالصة بدأها أفلوطين عندما اعتبر أن الفعل ضعف في التأمل، يفيض عن الواحد بفعل التأمل وليس بفعل الخلق. وربما كان ذلك رد فعل على المسيحية وفكرة التشبيه، وربما كان أثراً من آثار الغنوصية الشرقية.
واستمر في هذه الدعوة أوغسطين باحثاً عن الحقيقة، سواء في حواراته الفلسفية أو في تنظيره للعقائد المسيحية. وأوغسطين بعد تحوله إلى المسيحية، كان يعرف الحقيقة مسبقاً، ثم استخدم ثقافته الأدبية والفلسفية لتبريرها. كان هدفه، عملياً وليس نظرياً، الدفاع عن المسيحية ضد الشكاك والمانويين والدوناتيين والوثنيين وكل خصوم الإمبراطورية الرومانية. فقد كان مفكر الإمبراطور.
واستمر هذا التيار الإشراقي الأفلاطوني طوال العصر الوسيط المتقدم عند القديس بونافنتورا في «طريق الروح إلى الله». وتحول إلى نزعة صوفية خالصة تبدأ بمجاهدة النفس وتصفية القلب. فالعمل شرط النظر. ثم تحول إلى شعار «الإيمان باحثاً عن العقل» عند القديس أنسيلم، الإيمان أولاً ثم البرهان ثانياً، مما يقتضي تصفية القلب قبل صفاء الذهن.
ثم بدأ عصر الإحياء في القرن الرابع عشر، إحياء الآداب القديمة، تخلصاً من الفلسفة المدرسية والعقائد المسيحية وعوداً إلى الأساطير اليونانية وعظمة الإنسان. لم يكن نظرية في المعرفة بقدر ما كان نهضة حضارية جديدة لإنهاء العصر الوسيط وبداية فجر العصور الحديثة. وكان الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر ليس فقط نقداً للعقائد «الكاثوليكية» بل احتجاجاً دينياً على القديم وسلطة التراث والتوسط بين الإنسان والله، واضعاً بدائل مضادة، الكتاب وحده، حرية التفسير، والكتاب المقدس باللغة الوطنية، وحرية المسيحي، والعلاقة المباشرة بين الإنسان والله، والبساطة في بناء الكنائس دون بقايا الوثنية الرومانية القديمة. كانت البروتستانتية مرحلة في مسار التاريخ، وتحولاً في الوعي الأوروبي.
وأخيراً جاء عصر النهضة في القرن السادس عشر ليغير ليس فقط مصدر المعرفة، من القديم إلى الجديد، ومن بطليموس إلى كبلر وجاليليو ثم إلى نيوتن، ومن النقل إلى العقل، ومن النفس إلى البدن.. بل ليغير مسار التوجه الحضاري العملي من العود إلى الماضي إلى التوجه نحو المستقبل بعد أن كسب المحدثون المعركةَ ضد القدماء في الفكر والأدب والفن والعلم وكل مظاهر النشاط الإنساني.
وفي بداية العصور الحديثة أسس الوعي الأوروبي مشروعه المعرفي في «الكوجيتو» الديكارتي، «أنا أفكر فأنا إذن موجود». وبدأ الاعتزاز بالمعارف الجديدة، والتحقق من صدق هذه المعارف باتفاقها مع العقل ومع الطبيعة. والحقيقة أن هذا المشروع المعرفي الضخم إنما كان الهدف منه السيطرة على الطبيعة وتأسيس المجتمع المدني من أجل السيطرة على العالم. فقد واكبت الكشوف الجغرافية منذ أواخر القرن الخامس عشر، بعد سقوط غرناطة ونهاية الحكم الإسلامي في الأندلس.
لم يكن مشروعاً نظرياً خالصاً بل كان وراء الالتفاف حول القارات من البحار والمحيطات بعد أن فشل الدخول إلى القلب عن طريق البحر الأبيض المتوسط كبحيرة شبه مغلقة. وتم الالتفاف حول نصف الكرة الغربية من الشرق من الساحل الأطلنطي ثم الاندفاع نحو الغرب حتى الساحل الغربي على المحيط الهادئ. ثم تم الاندفاع جنوباً حول أفريقيا ثم شرقاً إلى جنوب شرق آسيا ومن ثم الاستيلاء على العالم القديم كله في أفريقيا وآسيا.
العقل المطلق والسيطرة المطلقة صنوان. والعقل الشامل والحكم الشامل قرينان. وكان ذلك كله لخدمة التجارة عبر البحار في العصر التجاري ما قبل المرحلة الرأسمالية. ثم تحول العقل من أداة معرفية ومنهج للكشف إلى عقل اجتماعي يفجر الأنظمة السياسية اللاعقلية، فقامت الثورة الفرنسية بعد أن تحول العقل إلى تنوير، والتنوير إلى ثورة. واكب العقل الملكيات، وواكبت الثورة الجمهوريات، كما أوضح ماركوز في «العقل والثورة». ووضع العقل مُثُل التنوير، الحرية والإخاء والمساواة والعدالة الاجتماعية والطبيعة والتقدم، أفضل ما أخرج الوعي الأوروبي للإنسانية.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة