من الحالات الطبية التي تتسبب في ملايين الوفيات سنوياً، وإن كانت لا زالت حتى الآن لا تتمتع بالإدراك الواسع في الوعي العام، هي الحالة المعروفة بتسمم الدم، أو تعفن الدم (Sepsis). هذه الحالة الطبية الخطيرة، يقدر أنها تصيب الملايين من البشر حول العالم كل عام، متسببةً في وفاة الملايين منهم، ولدرجة أن تسمم الدم يحتل المرتبة الأولى على قائمة أسباب الوفيات بين المرضى المحجوزين في المستشفيات، وخصوصاً من هم في أقسام العناية المركزة، حيث يلقى واحد من كل أربعة من هؤلاء حتفه بسبب تسمم الدم.
وتقر المنظمات الدولية العاملة في مجال الصحة العامة، بأنه من الصعب تحديد حجم العبء المرضي الناتج عن تسمم الدم، حيث تقدر مثلاً بعض الدراسات العلمية أن تسمم الدم يصيب 30 مليون شخص سنوياً، ويحتمل أنه يؤدي إلى وفاة 6 ملايين منهم، خصوصاً في الدول الفقيرة والدول متوسطة الدخل.
وينتج تسمم الدم من استجابة مفرطة ومبالغ فيها من جهاز المناعة، عند التعرض لعدوى، بدرجة تسبب ضرراً وتلفاً لأنسجة وأعضاء الجسم. بمعنى أنه عند التعرض لعدوى ما، وقيام جهاز المناعة بالاستجابة، لا يقتصر تأثير هذه الاستجابة على طرد وقتل الجراثيم، وإنما أيضاً إحداث تلف شديد في أعضاء وأجهزة الجسم، لدرجة قد تقتل المريض ذاته. وتظهر هذه الحالة في أعراض وعلامات شائعة، تشمل ارتفاع درجة الحرارة والحمى، وتسارع ضربات القلب، وزيادة معدل التنفس، والارتباك الذهني. وكثيراً ما تترافق هذه الأعراض والعلامات مع بأعراض وعلامات العدوى الأساسية، والتي تسببت في هذه الاستجابة المفرطة من جهاز المناعة.
ويؤدي تسمم الدم إلى تراجع وتدهور وظائف الأعضاء الحيوية الضرورية للبقاء والاستمرار في الحياة، مع انخفاض تدفق الدم، وانخفاض ضغط الدم. وإذا ما ظل ضغط الدم منخفضاً، حتى بعد علاج المريض بكميات معقولة من السوائل عن طريق الوريد، فإنه يتم تشخيص الحالة على أنها «صدمة تسمم دموي». ويعتقد أن تسمم الدم يتسبب في وفاة 30 في المئة من المصابين به، وترتفع هذه النسبة إلى 50 في المئة إذا كان التسمم شديداً وحاداً، وإلى 80 في المئة في حالات الإصابة بصدمة التسمم الدموي، أو أربعة من كل خمسة من هؤلاء المرضى والمصابين.
وليس من الواضح بعدْ السبب في هذه الاستجابة المفرطة من جهاز المناعة، وما يتبعها من تفاعلات خطيرة ومميتة أحياناً، هذا بالإضافة إلى أن تشخيص الإصابة من الأساس، يعتبر عملية معقدة، تعتمد على خبرة الطبيب، ودرجة حرارة المريض، وسرعة ضربات القلب، ومعدل التنفس.. بالإضافة إلى أنواع محددة من تحاليل الدم. وإذا ما شك الطبيب المعالج في إصابة المريض بتسمم الدم، فيجب البدء على الفور في العلاج بمضاد حيوي واسع النطاق، إلى أن تصل نتيجة مزرعة الدم لتحديد نوع البكتيريا بالضبط، واختيار المضاد الحيوي الأنسب للعلاج.
لكن تكمن المشكلة في أن نتيجة تحليل الدم قد تستغرق 72 ساعة، بالإضافة إلى أن تشخيص الإصابة من الأساس قد يتأخر، وبالنظر إلى خطورة تسمم الدم، تزداد احتمالات الوفاة بمرو الدقائق والساعات دون تشخيص مؤكد أو علاج سليم، أو على الأقل تزداد احتمالات الإصابة بالفشل الكلوي، أو فقدان أحد الأطراف، وغيرها من المضاعفات التي تصاحب الناجين من تسمم الدم، خلال باقي سنوات حياتهم.
وقد حقق مجموعة علماء من إحدى الجامعات البريطانية، هي (University of Strathclyde)، اختراقاً واعداً في مواجهة هذه المشكلة بالتحديد، وذلك من خلال تطوير جهاز إلكتروني مزود بحساسات بيولوجية إلكترونية دقيقة جداً، يمكنها أن تمنح الطبيب المعالج نتيجةَ الفحص في غضون بضع دقائق فقط، وفق دراسة نشرت في العدد الأخير من إحدى الدوريات العلمية المتخصصة (Biosensors and Bioelectronics journal). ويعتمد هذا الفحص على كشف نوع معين من البروتينات (Interleukin 6)، والذي يعتبر «مميزاً بيولوجياً» للإصابة بتسمم الدم. وهو ما من شأنه أن يمكن الطبيب المعالج أو الممرضة من متابعة المريض وحالته بشكل مستمر أثناء حجزه في المستشفى، في أسلوب مشابه لأسلوب فحص الدم المستخدم من قبل مرضى السكري لقياس مستوى السكر في الدم، بكل سهولة ويسر. بل يأمل القائمون على هذا الجهاز الجديد، أن يتم زرعه تحت الجلد مثلا في مرضى العناية المركزة، مما سيسمح بمتابعة حالتهم بشكل مستمر، والكشف عن إصابتهم بتسمم الدم فور حدوثه. وبناءً على الحكمة الطبية الثابتة، والقائلة بأن التشخيص المبكر، والعلاج المبكر، يزيدان من احتمالات الشفاء والنجاة في معظم الأمراض والعلل، خصوصاً الأمراض المعدية، نجد أن هذه الحكمة تنطبق بشكل أكبر وأعمق على حالات تسمم الدم، والتي ترتبط فيها معدلات النجاة، أو الوفيات، ارتباطاً وثيقاً جداً بسرعة التشخيص والعلاج.

*كاتب مهتم بالقضايا العلمية والصحية