الإيديولوجيا قد تهزم الثقافة حين يكون اتجاهها للماضي والانغلاق والتخلف، ولكن الثقافة تنتصر حين يكون اتجاهها للعلم والمعرفة والمستقبل، والحكم بينهما هو طبيعة اللحظة التاريخية والمعطيات الواقعية التي تخاض على أساسها المعركة بين الطرفين. في هذه اللحظة التاريخية التي نعيشها ثمة انتصارات للثقافة على الإيديولوجيا، للتسامح على التعصب، للتعايش على الكراهية، وبخاصة في دول الخليج العربي المحاربة للأصولية والتطرف داخل مجلس التعاون الخليجي وخارجه، ولكن القضية كانت مختلفةً قبل عقودٍ خلت.
كان إنشاء حسن البنا لجماعة «الإخوان» حدثاً خطيراً في المنطقة والعالم، حيث استطاع تحويل الإسلام من دينٍ سماويٍ يتبعه أكثر من مليار مسلم حول العالم إلى جماعةٍ تستغل هذا الدين لتحقيق أغراضٍ سياسيةٍ والوصول من خلال هذه الجماعة للسلطة وحكم الدول. كانت الأيديولوجيا التي أنشأها البنّا قويةً والتنظيمات التي أسسها متماسكة وفاعلة، من الجوالة والكشافة إلى التنظيم السرّي والنظام الخاص، غير أن البنّا وإنْ كان أسَّسَ تلك الأيديولوجيا فإنه لم يتوسع في ذلك بناءً على عدم قدرته الذاتية على بناء منظومة متماسكةٍ من الأفكار والمعارف، وهو ما أكمله من بعده من المنتمين للجماعة وأهمهم سيد قطب.
كان المشهد المصري في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين مليئاً بالأسماء الكبيرة في عالم الفكر والثقافة مثل عباس العقاد وطه حسين وأحمد أمين وعشرات غيرهم وكان بينهم توجه واضح للبحث عن صيغةٍ معاصرةٍ لقراءة التراث عبر مناهج حديثةٍ ولكلٍ منهم غايةٌ ومنهجٌ، ومن ذلك كتب «عبقريات العقاد» وكتب طه حسين عن «السيرة» و«الفتنة» وكتب أحمد أمين عن فجر الإسلام وضحاه ويومه، والمفارقة هنا هي كيف استطاع خطاب جماعة «الإخوان» أن يزاحم هذه الطروحات العميقة بطروحات بسيطة وسطحية إلى حدٍ ما؟
في محاولة الإجابة فقد كانت حقبة الثلاثينيات والأربعينيات تحت الحكم الملكي تعمل في فضاء حريةٍ واسعٍ وحراكٍ ثقافي كبيرٍ، وما حدث مطلع الخمسينيات هو انتصار مجموعة ضباطٍ وعساكر في انقلاب عسكري أطاح بالملكية ثم أخذ يفتش عن هوية له ووقع اختياره على الخطاب القومي، وهو يمثل إيديولوجيا منغلقة وحادةٍ لا تختلف كثيراً عن إيديولوجيا «الإخوان».
كان هذا سبباً في انحطاط قيمة الثقافة وقوة تأثيرها لمصلحة الخطابات المؤدلجة. إن الخطاب «الإخواني» أو الخطاب الناصري، وعندما اشتعلت المواجهة بين الإيديولوجيتين أصبح الموقف من هذا الصراع يفرض نفسه على الفضاء الثقافي ويلقي بظلاله عليها، وكان ثالثهما هو الخطاب الشيوعي.
ضعفت إيديولوجيا «الإخوان» في الخمسينيات والستينيات نظراً لضرب النظام الناصري المتواصل لها بالقوة، ولكن المعادلة تغيّرت بعد الهزيمة المنكرة في 1967 التي سميت حينها بـ«النكسة» حيث بدأ «الإخوان» يؤكدون على أنهم البديل الوحيد للإيديولوجيا المنهارة، وأن فشل إيديولوجيا الناصرية يمكن تعويضه بإيديولوجيا «الإخوان».
ثمة إجابات أخرى بالتأكيد لأن الظواهر الكبرى لا تفسر بعاملٍ وحيدٍ، ولكن غالب الباحثين يعتبرون 1967 هو عام صعود إيديولوجيا الإسلام السياسي، والتي تطورت لاحقاً عبر جماعاتٍ وتنظيماتٍ وأحداثٍ مهمةٍ، ليس هذا مجال الاستفاضة فيها.
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم بعد تفشي الحديث عن القضاء على تنظيم «داعش» في سوريا هو هل هذه الإيديولوجيا تختفي بالقضاء على مقرها؟ الجواب هو لا بالتأكيد، فما لم تنتصر الثقافة على الإيديولوجيا فستستمر الإيديولوجيا في خلق التنظيمات والجماعات المتطرفة والمسلحة. ما نراه اليوم من سباقٍ محفزٍ ورائع في الإمارات وفي السعودية نحو العناية المركزة بالثقافة والتطوير الواعي لها في كافة المجالات هو العلاج الأنجع والأكثر قبولاً للاستمرار في هزيمة الإيديولوجيا.
*كاتب سعودي