التعصب للقومية، المبني على التواجد الجغرافي واللون والأصول التاريخية، مؤشر رجعيّ، وإنْ كان يُشكل جدار حماية في اللاوعي لدى النوع البشري وتطوراته الجينية عبر القرون، وأوروبا هنا ليست استثناءً للقاعدة الأشمل للتعصب. وبما أن الإمبراطوريات في القرون الأخيرة والتقدّم المادي والطفرة في العلوم حدثت في أوروبا فلا غرابة أن يشعر الإنسان الأوروبي بأنه أكثر تقدماً من غيره حتى كإنسان، وأن يعتقد بأنه هو الأقرب للإنسان المثالي، والذي يجب أن يكون مثالاً يحتذي به بقية البشر، وهو موروث مظلم جاء من عصر التنوير لا يحمل مشعل نور.
فالحركات والجماعات الآرية العنصرية في الغالب تستند على أبعاد دينية ُفسّرت بصورة خاطئة لتنادي بالنقاء العرقي، والحفاظ على النسل وأهمية الفصل العنصري، ومن أتباع تلك الجماعات من هم متواجدون اليوم في العديد من البرلمانات الأوروبية، وهناك أحزاب سياسية تقوم على فكرهم، وحركات أخرى أكثر تشدداً كحركة «حليقي الرؤوس» أو «الأحزاب النازية الحديثة» على سبيل المثال، وهي جماعات تؤمن بتفوّق العنصر الأوروبي على بقية البشر، وأن باقي البشرية يندرجون في تسلسل هرمي وفي قمته الإنسان الأوروبي، وهي جماعات تميل للعنف وتؤمن بمبدأ إبادة الأقليات، والعيش المنعزل عن كل ما هو ليس جنساً أبيض وفق تفسيرات مغلوطة، وقراءات مسيحية خارج سياق الكنائس التقليدية (الكاثوليكية والأرثوذكسية) لا اتفاق على صحتها، كمعتقد أنهم من نسل آدم، وأما الأجناس من غير الأصول الأوروبية فهم من حواء ولكن «أباهم الشيطان وهم من نسله».
وعلى الرغم من أن الجماعات الأوروبية المتطرّفة غير العنيفة لا ترتبط أيديولوجياتها مباشرة بالنازية، فإن دعاياتهم وحملاتهم الإعلامية المتنوّعة تصور المهاجرين والأقليات العرقية بطريقة مشابهة لطريقة تصوير الدعاية النازية لليهود، وإلقاء اللوم عليهم في مشاكل اقتصادية وطنية وتصويرهم على أنهم تهديد خطير للهوية الوطنية الأوسع، وأمّا المتورّطون منهم في الجرائم الإرهابية التي بدأت تنتشر مؤخراً في كل أنحاء أوروبا فهم متأثرون بأفكار النازية المتطرّفة، وتعمل تلك الميليشيات الإرهابية على بث الخوف والفزع في قلوب المهاجرين عبر الاغتيالات العشوائية والمضايقات اليومية، والمثير للجدل أن عدداً لا بأس به من هذه الجرائم وخاصة جرائم القتل ُقيدت ضد مجهول، بل إن الشرطة في بعض الأحيان اتهمت الضحايا أنفسهم بالتورّط مع مافيات الأقليات العرقية، وأن هذه الجرائم كانت بدافع الثأر، وأنها جرائم فردية عابرة، وجرائم كراهية لا تصنّف كإرهاب، ولايتم الربط بين ديانة مرتكب الجريمة والجريمة.
فالحفاظ على صورة أوروبا كمجتمع متحضّر، ومجتمع لا تقوم الجماعات الإرهابية الأوروبية فيه بقتل المهاجرين، وأيضاً إنكار وجود خلايا فعّالة تقتل المهاجرين بدم بارد، كل هذا، يبدو أهم من مشاعر أهالي الضحايا، لكنه دليل على العنصرية البنيوية والمتجذّرة في المؤسسات، وإنْ كانت الحركات الفاشية أو النازية الجديدة تعتبر من الظواهر الهامشية، ولكن بالتأكيد مع بروز اليمين المتطرّف في البرلمانات الأوروبية، والتصويت الذي يحصل عليه زعماء أحزاب اليمين المتطرّف في مؤسسات الحكم المختلفة، هو ناقوس خطر يدق بشدة تحت حماية مظلة الديمقراطية، ويساهم في زعزعة البنية التحتية الهشة للديمقراطية الغربية التي لا تستطيع أن تخفي علامات الشيخوخة الظاهرة عليها بمساحيق الحريات والعدالة الانتقائية.
وفي مسح للرأي العام أجري في فبراير 2018 لمعهد البحوث الإيطالي «Demos & Pi»، نجد محاولة لبحث العلاقة بين الرأي العام ونوايا الناخبين في انتخابات عام 2018، وتم طرح سؤال لمعرفة رأي الناخبين في «موسوليني» مؤسسّ الفاشية، وكانت المفاجأة أنه من أصل «1014» شخصًا تمت مقابلتهم، كان 19% من ناخبي الأحزاب السياسية يتمتعون برأي «إيجابي أو إيجابي جدًا»، وهي نسبة كبيرة تعكس توجهّات الشارع السياسي الإيطالي، وينطبق الحال على بقية أوروبا بنسب متفاوتة، وإذا عدنا بالذاكرة إلى عام 2018 كان المشهد الملفت للنظر هو رؤية «60» ألفاً من القوميين يسيرون في يوم استقلال بولندا يرددون العبارات المعادية للأجانب، ويمجدّون الرموز اليمينية المتطرّفة، وهو الحدث الذي وصفه مناهضو الفاشية كمغناطيس للمجموعات اليمينية المتطرّفة في جميع أنحاء العالم، حيث كان المتظاهرون يحملون شعارات «بولندا النقية»، و«بولندا البيضاء»، و«اللاجئون يخرجون»، وكل هذا يحدث على مسمع ومرأى من العالم أجمع، ويحدث في كل دول القارة الأوروبية، ولم نسمع من يندّد في عالمنا العربي الكبير بقائمة ولوائح سوداء ُتدين جماعات التعصب العرقي، وهم يعيشون بيننا ويعملون ويستثمرون ويملكون المصانع والشركات التي لربما من بينها من يغذي الإرهاب الأبيض!