يتفق علماء المسلمين والأطباء في العصر الحديث على أهمية الموسيقى في حياة الإنسان، لما لها من فوائد عديدة على الحالة الصحية والنفسية للفرد، وكذلك على علاقة الفرد مع الآخر. وتؤكد الدراسات العلمية أن الموسيقى تساعد في محاربة الأمراض العضوية والنفسية، فحينما يكون الإنسان في حالة استرخاء تام، ويستمع إلى موسيقى هادئة، فإنه بذلك يُحفز على إفراز مادة تسمى بالأنترولوجين، والوظيفة الرئيسة لهذه المادة هي محاربة المواد الضارة، وحماية الجهاز المناعي من الأمراض والبكتيريا، لذا ينصح الأطباء بالاستماع إلى موسيقى هادئة مصحوبة بأصوات من الطبيعة كالعصافير والشلالات يومياً لمدة لا تقل عن خمس عشرة دقيقة، وحسب العديد من الدراسات تقلل الموسيقى من التوتر النفسي لدى العازف والمتلقي على حد سواء.
ولا يتوقف تأثير الموسيقى على الحالة النفسية للفرد، بل يمتد إلى علاقة أفراد المجتمع مع بعضهم بعضاً باختلاف طوائفهم ومعتقداتهم. وضمن هذا الإطار، نستذكر الغرض من تأسيس أوركسترا الديوان الغربي- والشرقي. ففكرة الأوركسترا في الأصل مبادرة من شخصين، هما عازف البيانو والمفكر إدوارد سعيد فلسطيني الجنسية مسيحي الديانة، وعازف البيانو وقائد الأوركسترا دانيال بارينيويم، إسرائيلي الجنسية، ويهودي الديانة. وكان الغرض من إنشاء الأوركسترا هو جعل الفن منهجاً للتقارب لمعرفة الآخر.
نشأت هذه الأوركسترا عام 1999، واستطاعت أن تضم شباباً عرباً وإسرائيليين. وعلى الرغم من تعايش اليهود مع المسلمين في ظل الحضارة الإسلامية، إلا أن احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، والتعدي على الآخر وإلغائه قد نَسفَ فكرة التعايش التي أرساها خلفاء المسلمين في الأندلس لمدة ثمانية قرون، ولهذا السبب فشل اليهود والعرب في التعايش السلمي في العصر الحديث.
كان لدى صاحبيّ الفكرة أمل في أن يجتمع العرب والإسرائيليون باختلاف أديانهم ومذاهبهم تحت مظلة الفن. ويحكي منظمو الأوركسترا بأنهم كانوا يجتمعون لأول مرة، وفي بداية التدريب كان يشعر كل فرد أنه يجلس بجانب عدوه، ولكن بمجرد أن يبدأ العزف ينسى الجميع كل الفوارق السياسية والدينية. وبعد ساعات طويلة من التمرين تتولد مشاعر جماعية.
والآلات في الأوركسترا يتم تقسيمها إلى عدة مجموعات رئيسة ومنها: الآلات الوترية، والآلات النفخية (الخشبية والنحاسية) والآلات الإيقاعية، وكل العازفين لا يتعدون على حقوق بعضهم في العزف. ومن خلال العزف على منصة واحدة، نمّت الموسيقى فيهم الشعور بروح الفريق، والاحترام، والتقدير. يقول بارنبويم: «إن الديوان ليس قصة السلام. مع أنه قد وصف بأنه مشروع للسلام رغم أنه ليس كذلك ولن يجلب السلام، سواء كنا نلعب جيداً أم لا. فالديوان بمثابة مشروع لمكافحة الجهل. وإنه من الضروري للغاية بالنسبة للشعوب أن تتعرف على الشعوب الأخرى، وفهم ما يفكر ويشعر به الآخرون، دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى الاتفاق معهم». صحيح أن الموسيقى لا تقدم حلاً للصراعات بأشكالها كافة، ولكن من خلال الموسيقى يجد الشباب لغةً مشتركة تتيح فرصة للتعارف. فهي اللغة الوحيدة التي لا تحتاج إلى مترجم لفهمها. إنها رسالة سلام ومحبة للشعوب كافة، ورسالة للتواصل الحضاري والإنساني، بعيداً عن لغة التطرف والتعصب، فبالموسيقى يمكن تجاوز الخلافات السياسية والدينية.
*أستاذ مساعد بأكاديمية الإمارات الدبلوماسية
almazrouei2013@gmail.com