الأغاني عن الطيور تنعش القلب، حتى الحزينة منها كالأغنية العراقية التي تقول: «أنا يا طير ضيّعني نصيبي». ولا ضياع ينعش القلب كهجرة الطيور، التي لا تُعّدُ بالآلاف أو مئات الآلاف، ولا حتى بالملايين، بل ثلاثة مليارات طير يبلغ وزن بعضها كالطيور المغردة، بضع جرامات، فيما وزن الطيور الجارحة، واللقالق، والغرانيق.. بالكيلوجرام. بدأ موسم الهجرة هذا الشهر، من أفريقيا والبلدان العربية إلى أوروبا. ولا مثيل في الطبيعة لجمال منظر آلاف أسراب الطيور تعبر من مواقع على شواطئ البحار الأحمر والمتوسط والأدرياتيك، خلال شهور الربيع والصيف حتى أغسطس، عندما يبدأ موسم الهجرة العكسية إلى الجنوب. وفي السبت الثاني من شهر مايو تحتفل بلدان خريطة الطيور باليوم العالمي للطيور المهاجرة، التي تتعرض لمخاطر تفتك بأكثر من 25 مليون طائر منها سنوياً. هذه الأرقام بحثتها «القمة العالمية الأولى لمسارات الطيور»، التي عُقدت في «أبو ظبي» الربيع الماضي، وساهم فيها «البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة»، و«مؤسسة حياة الطير» العالمية، واستضافها «الصندوق الدولي للحفاظ على الحُبارى» الذي تأسس في عام 1989 بمبادرة ودعم من المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه.
وتهاجر الطيور بحثاً عن الطعام ومواقع للأعشاش، التي تتوافر حسب فصول السنة شمال وجنوب الكرة الأرضية. وتهتدي الطيور في رحلتها عبر البلدان والقارات، بالشمس والنجوم وحركة الرياح وطوبوغرافية الأماكن وروائحها، والمجال المغناطيسي للكرة الأرضية. وتبحث أسرارَ هجرة الطيور معاهد ومراكز عالمية عدة، بينها «مختبر علوم الطيور» في «جامعة كورنيل» بالولايات المتحدة، والذي يسانده 14 مليون «هاوي طيور»، تسدُّ تبرعاتهم 99% من موازنته الفعلية. وأكثر من نصف طيور العالم غير مهاجرة، تجد طعامها في مواقع على مسافات قريبة منها طوال فصول السنة. ويُرجحُ باحثو مختبر «كورنيل» بأن أسباب الهجرة مسافات طويلة قد تكون موروثة بالجينات منذ العصور الجليدية. ويُلاحظُ كل من يحتفظ بقفص طيور في منزله اضطرابَ وقلق الأنواع المهاجرة في فصلي الربيع والخريف، ويُطلق على هذا السلوك اسم «قلق الهجرة».
وعدد أنواع الطيور في العالم نحو عشرة آلاف نوع، وهي أكثر المخلوقات انتشاراً، حيث تجدها في القطب المتجمد، والصحارى الكبرى، وبعضها -مثل طير «الخرشنة القطبي»- يهاجر من قطب إلى آخر. وتبحث إناث الطيور عَمّن يشبه آباءها، وبعضها يملك دماغاً مصمماً للعثور على شريك الحياة، حسب «ساره وولي» عالمة الطيور في «جامعة كولومبيا» بالولايات المتحدة. وجميع الطيور، حتى غير المهاجرة تبتهج بالغرام. «فالابتهاج يليق بالديك الذي يبتهج لأقل شيء، ويزقزق بحركات متنوعة مفعمة بالحيوية». قال ذلك الفنان «دافنشي».
ولا تُبارى الطيور بفنون الغرام، وقد شهدتُ أجملَها عندما التقيتُ في تسعينيات القرن الماضي «ديفيد أتنبورو»، منتج الكتب ومسلسلات التلفزيون عن الطبيعة، وأبدعها مسلسل «حياة الطيور»، وفيه مشهد ذكر طير «القيثار» يجتذب الأنثى بتقليد أغاني 16 نوعاً مختلفاً من الطيور، وتُسمعُ أصوات شدوه الغرامي من مسافة كيلومتر. وكما لو أن هذا غير كاف لإثارة إعجاب الأنثى، فيقدم لها عروضاً راقصة مثيرة ينتصب فيها ريشه وسط ذيله البالغ الطول، فيجعلها صفوفاً من أسلاك فضية مقوّسة كأذرع قيثارة. ومسرح عروضه باحة مساحتها نحو 4 أقدام يُسوي عشبها بنفسه، وينشئ 20 موقعاً مماثلاً خلال موسم التكاثر، يزورها على التوالي منشداً بصوته العالي، وهو ينشر قلنسوته التي تغطي رأسه، فيما تجول الإناث على باحات الذكور المغنين الراقصين، فتختار من يروق لها، وحال الباقين كما في الأغنية العراقية «أنا يا طير ضيّعني نصيبي، صِرت لا أنا لأهلي ولا أنا لحبيبي، ويا طير ما بين أنسى وين ألاقيك أحنْ مرّة لأهلي، ومَرّات أحِنْ ليك».