في دراسات علم السياسة الخاصة بالعالم العربي وجواره الجغرافي توجد مواضيع قليلة جداً ذات حساسية عند تناولها، لكن موضوعي الدين والسياسة هما الأكثر حساسية على الإطلاق. والصعوبة في التعامل مع هذين الموضوعين لا تنشأ فقط بسبب وجود جدل محتدم بشأنهما منذ أمد بعيد في التاريخ العربي والإسلامي، ولكن أيضاً من حقيقة أن تغيرات كثيرة كبرى ومستمرة تحدث على صعيدهما، لذلك نجد المشاكل على مستويين الأول، ربما يمكن نعته بأنه المستوى المعياري حيث تتواجد الاختلافات المتعلقة بشكل وجوهر الترتيبات الدينية والسياسية التي تعودت المنطقة عليها. والثاني، هو المستوى الأكاديمي أو العلمي حيث يوجد عدم الاتفاق الأزلي حول طبيعة الأوضاع التي تمر بالمنطقة فعلياً.
في هذا المقام المستوى المعياري لا يعنينا كثيراً، لذلك فلن نتطرق له لأنه ذو طبيعة خلافية شديدة التعقيد دائماً ما تُدخل المتعاملين معه في جدل حامي الوطيس ربما يكون عقيماً في أوقات عدة. وعلى أية حال ربما لا أضيف جديداً وليس من المستغرب أنني على مستوى دراساتي الشخصية درجت على أن أكون شغوفاً وواضحاً، خاصة في جدليتي مع المفكرين الغربيين، بأن المنطقة العربية لها عالم من السياسة خاص بها وحدها تختلف فيه عن السياسة في الغرب بسبب وجود عامل الإسلام في حياة أهلها. وفي أبسط صيغة له، هذا الطرح الافتراضي يقوم على أنه لا يوجد فصل بين الدين والدولة أو الدين والسياسة في الإسلام كما هو الأمر في الغرب. وعليه فإن ما يلي ذلك هو أن السياسة في المنطقة العربية لا يمكن فهمها قبل أن يتم فهم الإسلام أولاً. وهذا الطرح ليس بغير المنطقي بغض النظر عن أن الفرضية الغربية المقابلة له هي أنه يمكن دراسة السياسة في الغرب دون فهم الأديان القائمة فيه، لكن يوجد عدد من الصعوبات العملية التي انبثقت كنتيجة لهذه النظرة، ولها أصولها في الفكر السياسي الغربي.
القول بأنه لا يوجد فصل بين الدين والسياسة لا يعني بأن ذلك قائم على الصعيد العملي، فمنذ انتهاء فترة الخلافة الراشدة وقيام الدولة الأموية، وضع هذا المفهوم على الرف وخرج من الممارسة العملية ومرت على العالم العربي أصناف شتى من الحكم. لكن في عصرنا الحديث من المهم الإشارة إلى أنه منذ انتكاسة العرب في حرب يونيو 1967 أريد لهذا الطرح أن يعود إلى الميدان لكن بطريقة غوغائية، حيث تصاعدت أصوات المنادين بالطروحات المتطرفة الذين أخذوا في تخطئة كل من يعارضهم في الرأي أو يخالفهم في الفكر إلى حد نعتهم بالإلحاد والكفر، ووصف من يتواجدون في السلطة بأنهم غير عادلين، لذلك فإن الطرحات الثيولوجية التي يتم من خلالها تبرير معصية الدولة وسلطتها وممارسة العنف ضدها، أصبح موجُه عالياً وهائجاً إلى درجة أنه أصبح الصوت الوحيد على مستوى العديد من المنابر نتيجة لتقوقع الآخرين على أنفسهم إما لضعفهم أو لخوفهم على الذات أو لعداء السلطة لهم أو لتهديد الإرهاب لهم بالتصفية الجسدية، لكن معظم المواطنين العرب يرفضون ذلك وفقاً للفكر الإسلامي المعتدل.
إن الدعاوي المتطرفة والممارسات الضعيفة التي خرجت عن غلاة التطرف كأسامة بن لادن وأيمن الظواهري وأبومصعب الزرقاوي وأبوبكر البغدادي، والتي منابعها الأساسية هي فكر «الإخوان» كما وردت لدى سيد قطب، توضح وجود مشكلة جدية في جوهر الفكر الديني القائم. وعليه فإن ردة الفعل الخاصة بمواجهة عنف الدولة بعنف مضاد من أطراف غير الدولة أثبتت فشلها مفاقمة بذلك التوترات بين الدولة وشعبها من جانب ومن يسمون أنفسهم بالمعارضة الإسلامية من جانب آخر.