وقت كتابة هذه السطور كان جواد ظريف وزير خارجية إيران قد قدم استقالته من حكومة الرئيس حسن روحاني، والأخير بدوره قد أعلن أنه لم يقبل تلك الاستقالة، ووقت ظهور هذه الكلمات للنور ربما تكون الاستقالة قد قبلت وانتهى الأمر، أو عدل الرجل الذي وصفه وزير الخارجية الأميركية «مايك بومبيو» بأنه «واجهة لمافيا دينية فاسدة» عن استقالته وفي كل الأحوال ما يهمنا بالدرجة الأولى الإشارة إلى حالة الانقسام التي ضربت البيت الإيراني من الداخل.
لم يعد في الأمر سر خفي، إيران منقسمة روحها في داخلها ربما إلى أكثر من ثلاثة اتجاهات متضادة في مشاربها ونوازعها، مرشد أعلى خامنئي، ومعه قاسم سليماني، قائد الحرس الثوري الإيراني، في جهة، والرئيس حسن روحاني ومعه ظريف في ناحية ثانية، وبرلمان يعاني الشقاق والفراق بينهما ثالثا، ويبدو أن كل فريق يحاول إقناع الشارع الإيراني بأنه الأجدر بالولاية والوصاية، فيما لا يدرك ثلاثتهم أن الإيرانيين قد ملوا إلى حد الضجر، وسئموا إلى حد اليأس تلك الصراعات الأيديولوجية والدوجمائية الجوفاء، والتي لا تشبع بطونهم، وفات المرشد والرئيس والوزير، أن الشعوب تمشي على بطونها، وليس فقط الجيوش كما قال إمبراطور فرنسا نابليون بونابرت ذات مرة.
الانقسام والتخوين، التشرذم والتحزب في الداخل الإيراني، بداية النهاية لأسطورة تصدير الثورة الإيرانية للإقليم ولكافة أرجاء العالم، وفات هؤلاء أن التاريخ لا يعيد نفسه، وأن زمن الدولة الدينية قد ولى، وحلت دولة المواطنة والمساواة، العدل والكفاية، الحرية والإخاء محلها منذ ثلاثة قرون، عمر الثورة الفرنسية التي كانت ناراً حامية على الأساطير الدينية الأوروبية تحديداً. لماذا يستبعد ظريف من اللقاء مع الأسد، هذا في الوقت الذي يظهر فيه قاسم سليماني في كل اللقاءات؟
الجواب لا يحتاج إلى حنكة فكرية أو دبلوماسية كبيرة، والرسالة واضحة، وهي أن السياسة الخارجية الإيرانية لا يديرها ظريف، ولا يملك خيوطها رجالات الخارجية، بل يتحكم فيها سليماني وحرسه الثوري، ومن هنا فليفهم القارئ أن لا سياسة أو دبلوماسية لإيران، بل معارك وخطط عسكرية، وتنظيمات مسلحة وعناصر اغتيالات تتدثر في ثياب الدبلوماسيين وتنتشر حول العالم، والهدف لا يغيب عن أحد، فما بين اغتيالات للمعارضين، أو تفجير لتجمعاتهم كما حدث في يونيو الماضي في باريس، يبقى سليماني هو رجل الساعة وما قبلها وبعدها، وليس ظريف.
البعض الآخر يتحدث عن علاقة ظريف بالاتفاق النووي مع الغرب، وقد تسربت أخبار من الداخل الإيراني تفيد بأن خامنئي لم يكن راضياً في الأصل عن هذا الاتفاق، ولم يعطه مباركته، ولهذا فان ظريف، والذي يدافع وينافح عن الاتفاق حتى الساعة لم يعد الجواد الرابح لتيار الحرس الثوري الذي يجيد الكراهية ويقدم الشر المجاني للعالم، ناهيك عن المتشددين الموالين للمرشد خامنئي قلباً وقالباً، وجميعهم يرى أنه لا فائدة من تمسك إيران باتفاقية ألغاها دونالد ترامب، وأعاد فرض العقوبات على البلاد.
من جهة أخرى بدأت أسهم ظريف تهوي لدى التيار المناوئ لجماعة الرئيس روحاني بعد العقبات التي تعترض طريق الآلية الجديدة التي فكر الاتحاد الأوروبي في إنشائها لبقاء العلاقات الاقتصادية مع إيران، وازداد الأمر سوءا مع الانتقادات التي وجهها الرئيس الألماني فرانك –فالتر شتاينماير إلى إيران إذ اعتبر أن «حقوق الإنسان تداس بالأقدام في إيران، كما أن طهران تلعب دوراً مزعزعا للاستقرار في المنطقة، وهذا سيجعل الخطر المنبعث من إيران المسلحة نوويا أكثر».
وعلى الرغم من المساعي الأوروبية للوصل مع إيران اقتصادياً، فإن الرئيس الألماني كان يؤكد على أن بلاده وشركاءها الأوروبيين عازمون على ما اسماه «منع السباق النووي والتصعيد المنفلت للعنف في الشرق الأوسط، وقلل من قدر البرقية التي أرسلها لإيران معتبراً أنها جزء من الممارسات الدبلوماسية الشكلية».
لم يعد ظريف إذن جواد الرهانات الدبلوماسية الإيرانية، بل لم تعد إيران تعول على أي مجالات دبلوماسية، وهي التي تباشر مناورات في الخليج العربي، وتطلق أسلحة صاروخية جديدة من نوعها، ما يعني أن قراراتها الداخلية صارت شبه محسومة في يد جماعة بعنيها تختطف القرار.
والشاهد أن واقع الانقسام المخيف يتعزز داخل البرلمان الإيراني وبين نواب الشعب، الأمر الذي اتضح جلياً من خلال العريضة التي قدمها أكثرية أعضائه إلى الرئيس روحاني مطالبين بعدم قبول استقالة جواد ظريف وإبقائه في منصبه. الخارجية الإيرانية أيضاً مهددة بشرخ عميق وتفكك واسع قد يؤدي بنظام الملالي إلى انهيار جسوره في الخارج، ويمكن للمرء أن يستشف ذلك من خلال دعوة ظريف زملاءه في الخارجية داخل إيران وخارجها إلى عدم اتخاذ قرارات مماثلة لقراره بالاستقالة، ويمكن أن تقرأ الدعوة بالعكس أيضاً. الخلاصة.. البيت الإيراني ينقسم على ذاته، وكل بيت ينقسم على ذاته يخرب، وكل مملكة تنقسم على ذاتها لا تثبت.