كما امتد العقل من الإنسان إلى المجتمع امتد مرة ثانية من المجتمع إلى التاريخ وتحول إلى عقل تاريخي مكتشفاً قانون التاريخ ومسار التقدم. وأصبح لكل شيء عند هيجل تاريخ؛ الفلسفة والدين والفن والجمال. وأصبح تاريخ العالم هو قضاء العالم؛ فيه يتحقق كل شيء، ويصدر الحكم على كل شيء.
ثم جاء القرن العشرون ليكمل المشروع المعرفي الغربي في الظاهريات، وهي في تأويل آخر نزعة إشراقية تطهيرية. فالقاعدة الأولى «الرد» أو «التوقف عن الحكم» أو إخراج الواقع المادي خارج دائرة الانتباه، هي إبعاد للعالم وزهد فيه حتى يظهر عالم الماهيات وينكشف في النفس. فالحقيقة كشف والوجود، كما يقول تلميذه هيدجر مطبقاً منهج أستاذه. كما أن هوسرل في أواخر حياته، في المرحلة الثالثة من فلسفته منذ «التجربة والحكم»، عاد إلى العالم تأكيداً على شعار الفينومينولوجيا، أي «العودة إلى الأشياء ذاتها»، والبحث عنها في التجارب السابقة على الحمل المنطقي. كما أن المخطوطات التي تركها والمصنفة تحت حرف (k) تعطي وجهة نظر أخلاقية دينية صوفية للعالم، ونظرة إيمانية مسيحية قلبية، مما دفع عديدا من أنصاره إلى تأسيس فينومينولوجيا الدين.
وظهرت في الغرب دعوات تزعم أن الغرب وحده هو القادر على التنظير والبحث المعرفي الخالص، دون أدنى اهتمام عملي مصلحي نفعي، أي البحث عن الحقيقة المجردة؛ مثل النقطة في الهندسة التي لا طول ولا عرض ولا عمق لها، لكنها أساس الهندسة.
جعل ماكس فيبر التنظير خاصية للوعي الأوروبي بعد أن درس تاريخ الأديان واكتشف الطابع العملي لديانات الشرق. ومن ثم فالماركسية بنقدها النظر نزعة غريبة على الفلسفة الغربية. والبحث عن الأنماط المثالية هو البحث عما يتحكم في العالم: النظر سلطة، والعمل ضعف. والحقيقة أن ماكس فيبر يريد السلطة، أي العمل عن طريق النظر كعمل غير مباشر وليس عن طريق العمل المباشر أي الممارسة الفعلية.
وسار في نفس التيار هوسرل مؤسس الفينومينولوجيا المعاصرة عندما جعل التنظير صفة خاصة بالوعي الأوروبي.
وقد تزدهر الدراسات الصورية الخالصة، مثل المنطق والرياضيات، في ظل النظم الشمولية نظراً لصعوبة التعرض للواقع الاجتماعي والسياسي خوفا من الاضطهاد. فآثر العقل الاتجاه نحو العلوم الصورية الخالصة، كما كان الحال في بولندا إبان الحكم الشيوعي. فالنظر هروب من العمل وتعويض عنه. كما ازدهرت الرياضيات في أواسط آسيا بعد أن توقفت الفتوحات وضعُفت الخلافة، ولم يعد ينشغل الناس بهموم الدنيا.
والآن غابت فلسفات العقل وفلسفات الفعل معاً، ولم يعد الوعي الأوروبي يعطي شيئاً ذا بال. فبعد تحطيم العقل وسيادة اللامعقول، ظهرت التفكيكية لتقضي على ما تبقى من وظيفة للعقل وفككته وقضت على التمركز حول العقل وكل ما أبدعه العقل من قانون ونظام. وتأتي ما بعد الحداثة أيضاً لتقضي على كل شيء؛ العقل والفعل والبداية من الصفر بعد أن تنبأ نيتشه بعصر العدمية الشاملة.
ويبدأ الفعل من جديد خارج الوعي الأوروبي عبر حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، لاسيما في فلسطين وجنوب أفريقيا.
ربما انتهى العقل والفعل من الغرب، وبدأ الفعل في الشرق قبل أن يزدهر العقل تأكيداً على الكوجيتو العملي في الشرق مقابل الكوجيتو النظري في الغرب. وإذا كان المشروع الغربي قد بدأ بالعقل والسيطرة، فإن المشروع الشرقي قد بدأ بالفعل والتحرر، لذا يشتد عليه الآن الحصار والتهديد والتهميش حتى تظل السيطرة للغرب باسم ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات وصراع الحضارات ونهاية التاريخ.
فهل يعي العرب في أي مرحلة من التاريخ هم يعيشون؟!