مساء الخميس الماضي، وعلى نحو مفاجئ غيّر الرئيس دونالد ترامب سياسته تجاه سوريا إلى الأحسن. ذلك أن قراره ترك 200 جندي أميركي على الأقل هناك هو أول مؤشر على بدء تشكل ملامح استراتيجية لما بعد «داعش»، حرصاً على عدم عودة التنظيم الإرهابي، وعدم ارتكاب الأتراك مذبحةً ضد الأكراد، وعدم سيطرة إيران على كامل البلاد.
ومازال ثمة طريق طويل أمام الخطة التي أخذت تتضح ملامحها لتجنب كارثة في سوريا. وبالطبع، فإن ترامب وجهت له انتقادات بسبب طريقة تعاطيه مع الموضوع خلال الأسابيع القليلة الماضية، حيث تحدث في تغريداته على تويتر عن انسحاب أميركي كامل بدون استشارة كبار مستشاريه العسكريين. لكن إذا كان الرئيس الأميركي يتفق الآن مع معظم مسؤوليه والكونجرس على أن انسحاباً كاملاً بدون خطة بشأن ما سيأتي لاحقاً هو أمر متهور وغير حكيم، فثمة أسباب تدعو للأمل.
الخطوة التالية تتمثل في العودة إلى البلدان الأوروبية ومطالبتها بزيادة التزامات قواتها، في وقت تغادر فيه بقية الـ2000 جندي أميركي سوريا. هذه هي الكيفية التي يمكن أن تتشكل بها قوة دولية من أجل إقامة «منطقة آمنة» على الجانب السوري من الحدود التركية. وهي الخطة التي أمضى السيناتور لينزي غراهام عطلة نهاية الأسبوع الماضي في الترويج لها في ميونيخ. وقال غراهام في تصريح: «مع هذا القرار، قرّر الرئيس ترامب اتباع نصيحة عسكرية سديدة»، مضيفاً: «هذا القرار سيضمن عدم تكرارنا أخطاء العراق في سوريا. فمن خلال جزء صغير من القوات التي لدينا في سوريا، نستطيع تحقيق أهداف أمننا الوطني. حسناً فعلتَ يا سيادة الرئيس».
ولدى عودته إلى واشنطن، تحدث غراهام مع الرئيس الأميركي بشأن الفكرة، وكذلك بشأن الحاجة إلى تسلم البلدان الأوروبية مئات من مواطنيها الدواعش في سوريا ممن باتوا الآن معتقلين في سجون تديرها «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية.
وقدّم غراهام لمحة عن حديثه مع ترامب، الذي شمل الإشارة إلى الأخطار الممكنة في حال قرر الرئيس الأميركي ترك كل شيء في سوريا والانسحاب، مقابل الفوائد والإيجابيات في حال وجد طريقة لإقناع أوروبا بتقاسم العبء (سيتجنب الكارثة).
وبالعودة إلى مؤتمر ميونيخ، فقد تحدثتُ مع عدد من المشرعين الآخرين الذين قالوا لي إن الدول الأوروبية منفتحة على فكرة زيادة وجود قواتها داخل سوريا (بدرجات متفاوتة)، لكن فقط إن كانت واثقة من أن ترامب سيترك بعض القوات الأميركية على الأقل هناك.
وفي هذا الصدد، قال لي العضو الديمقراطي رفيع المستوى في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ روبرت ميننديز، إن ثمة قلقاً كبيراً جداً يساور كلا الحزبين في الكونجرس بشأن الانسحاب من سوريا بدون استراتيجية. ثم إنه إذا كان معظم المشرعين يفضلون أن تتبنى الخطةُ قوةً دوليةً، فإنه بدون بعض الجنود الأميركيين على الأقل لن يوافق الأوروبيون على المشاركة. وقال ميننديز: «إذا كنا على الميدان، فإننا نستطيع جذب الحلفاء وإكمال المهمة»، مضيفاً: «إذا بقي ترامب، يمكن أن يكون ثمة دعم، لكن إذا رحلت قواتُنا ونحت الأمور منحى سيئاً وقام ترامب بالأمور على طريقته، فإنه يصبح مسؤولاً عن الوضع برمته».
وقد يبدو كما لو أن غراهام يتصرف بشكل مستقل، إلا أن ذلك ليس واقع الحال في الحقيقة، فهو يعمل مع مسؤولي الإدارة ومسؤولين عسكريين، يحالون أيضاً إقناع ترامب بتخفيف الانسحاب الأميركي من سوريا لتجنب أسوء النتائج. ويُعتبر غراهام وجه تلك العملية، لكنه يحظى بكثير من الدعم الداخلي.
ومن إحدى النواحي، يمكن القول إن الأمر يتعلق بأسلوب ترامبي كلاسيكي: تخلق صدمة كبيرة في السياسة الخارجية الأميركية، ثم تجعل رجالك يحاولون إصلاح الأمور وإعادتها إلى نصابها على نحو يعالج الوعود التي قدمها ترامب في الحملة الانتخابية، أي إنهاء المغامرات العسكرية الأميركية وتقاسم عبء الأمن الدولي مع حلفاء الولايات المتحدة.
وبشكل هادئ، يحاول الأشخاص المحيطون بترامب أيضاً أن يبعثوا له بتحذير: إذا كان ثمة علم واحد لـ«داعش» يرفرف فوق بلدة سورية واحدة في أواخر 2020، فإن حملة إعادة انتخاب ترامب يمكن أن تكون في ورطة كبيرة. لكن أياً تكن دوافعه، فإن ترامب اتخذ قراراً جيداً  بعدم الانسحاب من سوريا بشكل كامل، والكرة الآن في ملعب الأوروبيين.

*صحافي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»