تمثل علاقة النظر بالعمل اختياراً رئيسياً في كل حضارة، بل هي الاختيار الذي يبني الدول ويقيم العمران، كما حدث في عصر الفتوحات الأولى. لذلك تظهر أمور الَمعاد النظرية في لحظات الضيق والعجز، كما ظهرت بعد استشهاد أئمة آل البيت وسيطرة آل عثمان. وفي لحظات الخلاص تعود هذه الأخرويات، من الخيال إلى الواقع، ومن عالم التمني إلى عالم الفعل، وتحرك الناس نحو الخلاص القريب كما هو الحال لدى العديد من الطرق والفرق والحركات الألفية التي تعتقد بظهور المخلص كل ألف عام!
وفي اللغة العربية يتشابه لفظَا «علم» و«عمل»، إذ يتكونان من نفس الحروف، ومعهما لفظ ثالث هو «عالم»، والذي يزيد عليهما بمد بعد العين دلالةً على الأفق والاتساع. ووفقاً لتأويل «ابن عربي» و«هيدجر»، فالعلم والعمل والعالم أبعاد ثلاثة لحقيقة واحدة: النظر، والعمل، وميدان التحقق.
وقد ورد لفظ العمل في القرآن مئات المرات. ومن حيث الاشتقاق ذُكر العملُ فعلاً أكثرَ منه اسماً، مما يدل على أن العمل فعل. والمخاطب الجمع أكثر الصيغ للدلالة على الخطاب. وأكثر الأزمنة المضارع، مما يدل على أن الفعل حقيقة مستمرة. وفي الاسم، الجمع أكثر من المفرد، مما يشير إلى العمل الجماعي. والإضافة إلى الضمير، خاصة ضمير الجمع. وكذلك الأمر في اسم الفاعل.
ومن حيث المضمون يدفع القرآن الكريم نحو العمل: «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون». وقد ورد لفظ «العمل» في القرآن مئات المرات ليفيد ارتباط الإيمان بالعمل الصالح: «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات». وفوز الإنسان في الآخرة بالعمل الصالح: «أما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى». والعمل الصالح له قيمته في ذاته بصرف النظر عن الإيمان والكفر: «لعلي أعمل صالحاً فيما تركت». والاستحقاق قانون جزاء الأعمال: «ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره». والإنسان مسؤول عن عمله: «لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون». والعمل عمل اليد: «ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم». وهو عمل في الأرض: و«يستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون».
والدعوة إلى العمل صريحة وواضحة في القرآن الكريم: «قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل»، «ولمثل هذا فليعمل العاملون».
ويظهر في القرآن أيضاً لفظ «فعل»؛ فالعمل أقرب إلى العمل في الخارج والتأثير في العالم، أما الفعل فأقرب إلى العمل الذاتي: «فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف». وترد معظم استعمالات لفظ «فعل» في القرآن بمعنى يتصل بتطهير الذات. والفعل أيضاً مرتبط بالقول: «يا أيها الذين آمنوا لما تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون».
كما ورد لفظ «العمل» في الحديث، وارتبط في معظم الاستعمالات بالعلم النافع وضرورة تطابق علم العالم مع أفعاله وأقواله، «تعلموا، تعلموا، فإذا علمتم فاعملوا». فالعلم نهاية العمل، العلم بداية والعمل نهاية، «لا تكون بالعلم عاملاً حتى تكون به عالماً». العلم مقدمة والعمل نتيجة. ولا يوجد علم نظري إلى ما لا نهاية: «فإذا عرفتم منه فاعملوا». والعلم قراءة القرآن، وقراءة القرآن تؤدي إلى العمل به: «المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به». وهو عمل في الأرض لتعميرها وفي الدنيا تحقيقاً لرسالة الإنسان واستخلافه في الأرض. هو العمل اليدوي المنتج «خير الكسب كسب يد». هو العمل في الوقت المحدد، فللعبادة مواقيت: الصلاة والصيام والزكاة والحج. وأفضل الفعل أدومه وإن قل. والعمل سنة، اتباع وإبداع، تقليد وتجديد، و«إنما الأعمال بالنيات».

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة