هناك شخصيات كبيرة مرموقة تسدي خدمات جليلة للأمم والأوطان، وتبقى أسماؤها قرينة بأعمال الخير والتنمية والتشييد، لذا ارتأيت بمناسبة اليوم العالمي للمرأة أن أتطرّق لعمل امرأة فاضلة يذكرها التاريخ بتبجيل وتقدير كبيرين، ألا وهي أم البنين فاطمة الفهرية، التي بنت جامع القرويين سنة 245هـ، أقدم جامعة في العالم. وقد وجد المؤرخون، كما يكتب عبدالهادي التازي، في جدران هذه المؤسسة العظيمة، وفي كراسيها العلمية، وفي مرافقها العديدة الدالة، وفيما مر بها من رجال، وما شهدته من أحداث، وما مر بها من ظروف وصروف.. وجدوا فصولا تختصر ترجمة السيدة فاطمة وترسم الخطوط الكبرى لما يمكن أن يقال عنها، وقد خصص أبو الحسن علي الجزنائي فصلاً مطولاً من كتابه «جنى زهرة الآس في بناء مدينة فاس» للحديث عن جامع القرويين بما يشتمل عليه من أثاث فريد من نوعه اكتسبه على مدى السنين مما كان مصداقاً للعبارة الصغيرة والعظيمة في ذات الوقت التي قالها ابن خلدون وهو يسجل مبادرة السيدة أم البنين: «فكأنما نبهت عزائم الملوك من بعدها».
ولا شك أن الفتح الإسلامي قد امتاز عن الفتوحات الأخرى بكونه جاء يحمل «كتاباً»، لذا نرى أن التعليم كان في صدر ما يهتم به الإسلام، ولما كان المسجد هو المركز الوحيد لتجمع المؤمنين، فقد كان هو المدرسة الأولى، وبهذا نستطيع القول إن مسجد قباء كان أول معاهد التعليم في المشرق، وإن أول مدرسة اختطت بالشمال الأفريقي كانت في القيروان، وتبعت كلا من الأول والثاني، مساجد انتشرت هنا وهناك كجامع الزيتونة بتونس، وجامع القرويين بالمغرب، وجامع الأزهر بمصر.. إلخ. بيد أن هذه المساجد لم تظل باستمرار مراكز للتعليم، فمنها ما انتهت الدراسة فيه مبكراً، ومنها ما انقطعت فيه ردحاً من الزمن، لكن جامع القرويين بفاس يختص بكونه شُيد في مدينة وُضع حجرها الأساسي لا برسم أن تكون بلداً تجارياً أو مدينة صناعية، ولكن لتكون «دار علم وفقه»، كما أن العلماء والفقهاء هم الذين كانوا يشرفون على بنائها منذ اليوم الأول، ثم إن الدراسة فيها استمرت منذ الفترات الأولى، ولم تتفكك حلقاتها العلمية حتى في الأعوام التي كانت تتم فيها أعمال الترميم والبناء، وحتى عندما اتخذت دولة المرابطين عاصمتهم مدينة مراكش سنة 462ه (1170م)، ظلت القرويين مركز «إشعاع علمي» وظل قضاة «العاصمة الجديدة» يبعثون بأبنائهم للتزود من أفاويق لبان القرويين، الأمر الذي لم تتخل عنه الأصقاع الجنوبية ومدن الجهات الشمالية.
فإذا عرفنا إلى جانب هذا أن جامعة بولونيا (بإيطاليا) أسست سنة 1119 وجامعة أكسفورد (بإنجلترا) سنة 1229، وجامعة السوربون (بفرنسا) سنة 1257.. قدّرنا ما أكده بندلي جوزي ‏Jousé (ت 1942) من أن «أقدم كلية في العالم ليست في أوروبا، كما كان يظن، بل في أفريقيا بمدينة فاس عاصمة المغرب»، وأن الذي بناها هو امرأة فاضلة فقِهت دور المرأة في المجتمع، ودور الجامعة في بناء الفكر والعقيدة.
لقد نبغت في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية الآلاف من العالمات المبرَّزات والمتفوقات في أنواع العلوم وفروع المعرفة وحقول الثقافة العربية والإسلامية، وترجم الحافظ بن حجر في كتابه «الإصابة في تمييز الصحابة»، لثلاث وأربعين وخمسمائة وألف امرأة، منهن الفقيهات والمحدثات والأديبات. وذكر كل من الإمام النووي في كتابه «تهذيب الأسماء واللغات»، والخطيب البغدادي في كتابه «تاريخ بغداد»، والسخاوي في كتابه «الضوء اللامع لأهل القرن التاسع»، وعمر رضا كحالة في «معجم أعلام النساء»، وغيرهم ممن صنف كتب الطبقات والتراجم، ذكروا تراجم مستفيضة لنساء عالمات في الحديث والفقه والتفسير ولأديبات وشاعرات.
وقد تفوقت المرأة المسلمة على الرجل في جوانب كثيرة في علوم الحضارة الإسلامية خلافاً لما يدعيه بعض الغربيين، إذ نجحت كحاكم وكقاضٍ وكمحاربة وكقائدة للجيوش وكمحتسبة وكفقيهة.. وفي صفحات تاريخ الحضارة الإسلامية شواهد لنساء فضليات مازالت أعمالهن تشهد لهن بنبلهن وبعد نظرهن، وهذه هي الطبيعة الحقيقية للإسلام الذي أعطى للمرأة حقها ورفع من شأنها ومكانتها وجعلها جزءاً لا يتجزأ من المجتمع.

*أكاديمي مغربي