في العلاقات الدولية مساحات رمادية واسعة. وبمقدار ما تزداد هذه المساحات، يكون العالم أكثر استقراراً وأمناً. المساحات «البيضاء»، التي ترمز لعلاقات وثيقة واتفاق كامل، قليلة. المساحات «السوداء»، التي ترمز لانتشار الصراعات الأكثر حدة وتهديداً للأمن والسلم العالميين، أوسع من «البيضاء». لكنها أقل من المساحات الرمادية التي تظل الأوسع نطاقاً في الأغلب الأعم.
ولذا، تبدو قاصرةً النظرةُ الضيقةُ إلى نتائج القمة الأميركية الكورية الشمالية في هانوي نهاية الشهر الماضي. الانطباع السائد في معظم الأوساط، السياسية والإعلامية، أن القمة فشلت. غير أن هذا استنتاج متعجل، ويرتبط بنظرة ضيقة تحصر العلاقات الدولية في «أبيض» و«أسود». فإذا لم تنته القمة إلى نتائج محددة واضحة تصبح فاشلة! وهذا ما توصم به قمة هانوي لأنها انتهت من دون إصدار بيان أو وثيقة من أي نوع. لكن كم من بيانات لا قيمة لها صدرت عن اجتماعات على مستوى القمة أو غيرها، في مختلف مناطق العالم.
ولذا، يبدو الحكم على قمة ترامب –كيم جونج أون الثانية بالفشل سابقاً لأوانه، مثله في ذلك مثل حديث مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون عن نجاحها في تأكيد المسار الذي حددته الولايات المتحدة للتفاوض مع كوريا الشمالية، وتعميق العلاقات معها في آن معاً.
لقد بدا أن القمة فشلت لأن الرئيس الأميركي أصر على التزام بيونغ يانغ بتدمير قدراتها النووية، ووضع معايير فنية دقيقة تضمن عدم وجود ثغرات تتيح لها التحايل على الاتفاق الذي سيُعقد عندما تصل المفاوضات إلى نهايتها. وكانت تجربة خطة العمل الشاملة المشتركة ‏JCPOA، ?المعروفة ?إعلامياً ?بالاتفاق ?النووي ?الإيراني، ?ماثلة ?في ?خلفية ?موقف ?ترامب ?وفريقه ?في ?هانوي، ?عندما ?فضلوا ?استمرار ?اللقاءات ?بين ?المسؤولين ?التقنيين ?المتخصصين ?في ?الجانبين ?للوصول ?إلى ?المواصفات ?والشروط ?التي ?تحول ?دون ?تكرار ?تلك ?التجربة، ?التي ?رأى ?ترامب ?أنها ?فاشلة ?وكارثية، ?ولا ?يمكن ?أن ?تحقق ?نزعاً ?كاملاً ?لقدرات إيران ?النووية، ?فضلاً ?عن ?إغفال ?برنامجها ?الصاروخي ?البالستي، ?والتهاون ?بشأن ?سياستها ?الإقليمية ?التي ?تزيد ?التوتر ?في ?منطقة ?الشرق ?الأوسط.
ولذا قرر سحب توقيع الولايات المتحدة على تلك الخطة، وإعادة فرض العقوبات التي كانت إدارة أوباما قد رفعتها، والتوسع فيها. وهذا يفسر رفض ترامب، في قمة هانوي، البدء في رفع العقوبات المفروضة على كوريا الشمالية، رغم أن طموح كيم جونج أون في هذا المجال كان محصوراً في الإجراءات المؤثرة في الوضع الاقتصادي، وبعيداً عن تلك المتعلقة بالقدرات العسكرية.
وقد أدرك ترامب أن بيونغ يانغ تتطلع إلى اتفاق لا يختلف في جوهره عن ذلك الذي رفضه مع إيران. فقد ذهب جونج أون إلى هانوي حاملاً مقترحاً برفع العقوبات جزئياً مقابل غلق نهائي لقسم في مجمع يونجبيون الضخم الذي يضم منشآت لتخصيب اليورانيوم، والذي يمثل بدوره جزءاً من قدرات كوريا الشمالية النووية، أي التوصل إلى تفاهم مرحلي، واستمرار المفاوضات للانتقال إلى مرحلة تالية.
لكن قبول ترامب مثل هذه الصيغة يعني استعداده للمخاطرة بإعادة إنتاج تجربة المفاوضات مع إيران. فإذا تأملنا هذه الصيغة، نجد أنها تحدد ما ستحصل عليه بيونغ يانغ بوضوح، وهو رفع العقوبات المفروضة عليها، ومن ثم إدماجها في المجتمع الدولي، بينما تبقى مساحة من الغموض بشأن ما تسعى إليه الولايات المتحدة، وهو ضمان عدم تحول كوريا الشمالية إلى دولة نووية في أي وقت.
ولذا، أراد ترامب وفريقه في هانوي، توجيه رسالة واضحة تفيد الإصرار على صفقة تضمن عدم تحول كوريا الشمالية إلى دولة نووية بعد عشر سنوات، أو أكثر، أو أقل، بخلاف ما حدث عند توقيع الاتفاق مع إيران عام 2015.
لكن نجاح الاستراتيجية التفاوضية التي يتبعها ترامب يتطلب وقتاً، لأنها تعتمد على بناء الثقة التي كانت مفقودة تماماً مع كوريا الشمالية، ولم يمض على البدء في وضع أساسها سوى أقل من عام، إذا اعتبرنا أن قمة سنغافورة التي جمعته وجونج أون في يونيو الماضي خطوة أولى في هذا الاتجاه.
وهكذا يبدو مستقبل المفاوضات بين واشنطن وبيونغ يانغ مرهوناً بمواصلة إحراز تقدم في بناء الثقة، وصولاً إلى مستوى من العلاقات يسمح بتلافي عيوب المفاوضات التي أسفرت عن الاتفاق على خطة العمل الشاملة المشتركة بين مجموعة (5+1) وإيران.