لم أكن أتوقع أن ندخل السنة التاسعة في مأساتنا السورية دون الوصول إلى حل سياسي، لكنني يوم الرحيل من دمشق في مطلع أغسطس2011 تحسست مفتاح منزلي في جيبي حين دخلت الطائرة، وتذكرت المفاتيح الفلسطينية التي بقي الفلسطينيون يحملونها أو يعلقونها على الجدران ستين عاماً ونيفاً، وخشيت أن تتكرر المأساة مع السوريين المهاجرين والنازحين، لكنني استبعدت مخاوفي، فالقضية في سوريا سهلة الحل، وبوسع الرئيس أن يقدم حداً مقبولاً من مطالب الشعب، وأن يخفف من شدة القبضة الأمنية على رقاب الناس، وأن يدعو إلى انتخابات برلمانية جديدة، خارجة عن محاصصات الجبهة الوطنية التي أصبحت مؤسسة هلامية، ولكنني كنت أتوقع أن يخشى النظام تقديم أي تنازل للشعب يقود إلى مزيد من التنازلات مع ارتفاع سقف المطالب الشعبية بما يهدد بنية النظام الذي يعتمد على السياج الأمني الحديدي. والمفارقة أن النظام لم يقدم إلى اليوم أي مبادرة أو رؤية لحل سياسي، فقد صنع إيديولوجية خاصة به لتفسير ما يحدث في سوريا، منذ أن أعلن في بداية الأحداث، أن العصابات المسلحة تنفذ مؤامرة كونية ضده لأنه نظام مقاوم وممانع، ويريد أن يحرر فلسطين.
ولقد جاء قرار إنزال الجيش لمكافحة التظاهرات وحصار المدن محرضاً على الانتقال من التظاهر السلمي إلى الصراع المسلح، حيث رفض عدد كبير من ضباط الجيش ومن الجنود تصويب أسلحتهم على أهلهم وشعبهم فبدأت الانشقاقات الكبيرة وهي التي قادت إلى تأسيس «الجيش الحر»، وكان لابد للنظام من إغراق الساحة بالمتطرفين كي يقدم الدليل على أن ما يحدث هو حركة تمرد إرهابية، فتم إطلاق سراح المعتقلين المتطرفين، الذين سارعوا لتشكيل تنظيمات دينية متطرفة وتمكنوا من القضاء على «الجيش الحر»، وأعلنوا رفضهم للديموقراطية وللدولة المدنية، ورفدتهم القوى الدولية بتنظيمات عابرة للقارات مثل «داعش» وشقيقاتها، وهي التي قامت بتعمية ضخمة على مطالب الشعب، وحولت أنظار العالم عن مسار ثورة شعبية هدفها إنهاء الديكتاتورية إلى مشهد حكومة رشيدة فاضلة يهددها الإرهاب، وبات على العالم أن يختار بين نظام حكم علماني وبين خلافة إسلامية ذات طابع إرهابي.
لم تكن الحقيقة غائبة عن قادة المجتمع الدولي، وعن مثقفيه ومفكريه، فهم يعرفون أن هذه التنظيمات المتطرفة هي من صناعة إيران وأتباعها، وقد تابع العالم كله مسرحية دخول «داعش» إلى الموصل، والطريف أن الرئيس ترامب أعلن في حملته الانتخابية مسؤولية أوباما وهيلاري عن تأسيس «داعش»، والعالم كله يعرف كيف تأسس تنظيم «القاعدة» أصلاً، وكيف قامت إيران برعاية هذه التنظيمات المتطرفة التي لم تقم بأي عمل إرهابي ضد إيران أو إسرائيل، وإنما كانت كل عملياتها ضد البلدان العربية والإسلامية، وكذلك نشطت في أوروبا لتشويه صورة الإسلام وتقديمه دين عنف وإرهاب.
لقد كان المفجع أن النظام السوري اختار نصائح إيران و«حزب الله»، بدل أن يختار نصائح أشقائه العرب الذين اقترحوا عليه الحلول السياسية. وأعلنوا استعدادهم لكل أشكال الدعم، لكنه سرعان ما استقدم «حزب الله» كي يساعده على قتل الشعب السوري وتهجيره، ثم استعان بإيران وميليشياتها التي حولت الصراع إلى حرب طائفية، ومنحت المتطرفين شرعية تطرف مضاد، وحين أخفق النظام وإيران وميليشياتها في إخماد ثورة الشعب رغم سقوط مئات الآلاف من الضحايا، استعان النظام بروسيا، ومع أن روسيا انتصرت عسكرياً وتمكنت من أن تعيد للنظام مواقع مهمة كانت تسيطر عليها الفصائل المعارضة عبر المصالحات القسرية كما حدث في ريف حمص والغوطة وحوران، إلا أن ثلث مساحة سوريا ما تزال إلى اليوم خارج سيطرة النظام، ولكنها ليست بيد الشعب أيضاً.
ولا يبدو في الأفق أن هناك حلاً سياسياً قريباً، فقد تم إهمال القرار 2254 وتم تجاوز جوهر بيان جنيف القاضي بتشكيل هيئة حكم انتقالية، وباتت القوى الدولية تدير الصراع بدل أن تسعى إلى إنهائه، ولم يعد للسوريين أي دور أو حضور نظاماً ومعارضة، في تقرير مستقبلهم.
ولقد بدأ قبل أيام الفصل الأخير بتدمير إدلب، وإن لم ينهض المجتمع الدولي لإيجاد حل سريع فإن أربعة ملايين مواطن سوري في محافظة إدلب مهددون بالإبادة من أجل حفنة متطرفين ما يزالون يجدون دعماً كي يكونوا ذريعة لتدمير مدن الشمال السوري كلها، ولو انقطع عنهم الدعم خلال الشهور التي تلت اتفاق سوتشي لانتهى حضورهم، ولكن إدارة الصراع تريد أن يبقى الجرح السوري نازفاً، وهو اليوم يدخل عامه التاسع.