لم تكن مجزرة المسجدين في نيوزلندا يوم الجمعة الماضي على فظاعتها مجرد جريمة إرهابية معزولة، بل تندرج في سياق تحولات ملموسة في المجتمعات الغربية التي عرفت في السنوات الأخيرة تصاعد موجة التطرف والكراهية التي عبّرت عنها التيارات اليمينية المتشددة والحركات العنصرية والنزعات الشعبوية المتعصبة.
لقد لاحظ الكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف في كتابه الصادر هذه الأيام بعنوان «غرق الحضارات»، أن انهيار نموذج الشرق المتنوع المتسامح قد واكبه انهيار الغرب الأنواري المنفتح، مُرجعاً خلفيات هذا الانهيار المزدوج إلى حدثين أساسيين يعودان لنهاية السبعينيات هما: الثورة الإيرانية التي كرست صعود التطرف الديني في الشرق، والثورة المحافظة الجديدة في بريطانيا والولايات المتحدة (التاتشرية والريغانية).
وإذا كان الحدث الأول أفضى بعد عقود إلى تحويل الشرق الأوسط إلى ساحة صراع أهلي عارم وتصفيات دينية طائفية عنيفة، فإن الموجة المحافظة انتقلت من البعد الاقتصادي المحدود إلى الأبعاد الاجتماعية الواسعة، التي تنعكس اليوم في تراجع القيم الليبرالية الإنسانية وطغيان النزعات الهوياتية المغلقة وبروز أنماط جديدة من العصبيات المجموعاتية التي تنخر المنظومة الديمقراطية من الداخل.
ويمكن القول، بالاستناد إلى ملاحظة أمين معلوف، إنه كما أن حركات التطرف الراديكالي التي ترفع الشعار الإسلامي لا علاقة لها من حيث التحليل الاجتماعي العميق بالدين عقيدةً وقيماً وشرائعَ، فإن التيارات العنصرية والقومية الراديكالية في البلدان الغربية لا تعبر عن يقظة دينية جديدة، بل هي مظهر لأزمة مجتمعية تتعلق بالمأزق الحاد الذي دخلت فيه المنظومة الليبرالية خلال العقود الأخيرة.
وإذا كان الإرهابي الأسترالي الذي هاجم مسجدي كرايست تشيرش، قد استند في عمليته الفظيعة إلى أطروحة «الاستبدال العظيم» التي بلورها الكاتب اليميني المتطرف الفرنسي «رنو كاميس»، فإنه بذلك يندرج في سياق تيار واسع يتوزع إلى اتجاهين أساسيين: محافظ جديد وشعبوي يميني متطرف. وما يجمع الاتجاهين هو أطروحة الدفاع عن «هوية حضارية عرقية» مهددة بالغزو الخارجي الذي يتركز في «الخطر الإسلامي».
النزعة المحافظة الجديدة تتميز عن الفكر المحافظ التقليدي في كونها لا تصدر عن مرجعية التقليد الاجتماعي الثابت القائم على مرتكزات تراثية راسخة وفق التصور الذي وضعه الفيلسوف الإنجليزي المحافظ «ادمون برك» في القرن الثامن عشر في رفضه للثورة الفرنسية من حيث كونها تصدر عن «تصور هندسي مجرد» للعقل في دلالته الفردية الذاتية خارج التقليد الجمعي المتوارث.
النزعة المحافظة الجديدة، وإن رفضت القيم الليبرالية الحديثة في تصورها للحرية الفردية والهوية المفتوحة، فإنها لا تستند لتقليد ديني أو قومي ثابت، بل تحول الهوية إلى حصن للخصوصية المهددة وتحول السياسة إلى إدارة لمشاعر الخوف والكراهية. إنها لا تنظر إلى الهويات من حيث كونها مجموعات ثقافية كونية بأبعاد وقيم إنسانية مفتوحة، كما كان يتصورها الفلاسفة المحافظون الكلاسيكيون، بل تتصورها في شكل عصبيات انكفائية مغلقة.
كما أن الشعبوية اليمينية الجديدة تختلف عن الشعبويات الثورية التي طبعت حركات اليسار في السابق، فإن اتفقتا في رفض قيم التعددية والتمثيل والحرية الفردية، من منطلق تصور شمولي متخيل لأمة بعقل واحد وهوية متجانسة، إلا أنها تتميز بتصورها العنصري الإثني لمفهوم الشعب في مقابل التصور الاجتماعي الطبقي للشعبويات اليسارية.
إن تداخل التيارين المحافظ الجديد والشعبوي اليميني أدى إلى الظاهرة التي عبرت عنها الفيلسوفة الفرنسية «مونك كانتو سبيربر» بنهاية الحريات التي تبرز في نضوب عدة مفاهيم جوهرية في المنظومة الليبرالية، مثل مفهوم الفرد المستقل، والمسؤولية الشخصية، والتمثيل السياسي (بما يدل عليه مفهوم التمثيل من معايير الوساطة الاجتماعية وتوازن السلط داخل المجتمع المتنوع).
وهكذا تزايد الحديث عن انفصام الليبرالية والديمقراطية، وتبنى الرئيس الهنغاري «فيكتور أوربان» مقولة الديمقراطية غير الليبرالية، واختار الزعيم الروسي «فلاديمير بوتين» عبارة «الديمقراطية السيادية» للدلالة على المعنى ذاته.
وإذا كانت النزعة المحافظة التقليدية قد تأقلمت مع المنظومة الليبرالية في مبدئيها الأساسيين: حرية الوعي والمواطنة المتساوية مع الحفاظ على القيم الاجتماعية المتأصلة ثقافياً، كما تأقلمت الفكرة القومية الحديثة مع الأطروحة الليبرالية التعددية نفسها، فإن التيارين الشعبوي اليميني والمحافظ الجديد هما في تعارض مطلق مع الأفكار الليبرالية والتنويرية الحديثة التي حصنت المجتمعات الأوروبية في العصور الماضية من العنف والكراهية والحروب الأهلية. ومن هنا ندرك مخاطر هذه التحولات على السلم العالمي وعلى مستقبل التعايش بين الأديان والثقافات.