يبدو من خلال الوقائع الميدانية أن الإنترنت يعيش في زمنه الذهبي اليوم، من خلال شبكات التواصل المفتوحة غير المركزية (كما في الميديا الجماهيرية الكلاسيكية، التلفزيون الصحافة الراديو) ليحتل تداول آراء فيه السجالات السياسية والاجتماعية والثقافية الخاصة والعمومية. وقد صار الإنترنت، بوسائله العديدة، في متناول الجميع من كل الأعمار والفئات والمستويات الثقافية والعلمية والمهنية، ليتيح لكلٍ أن يعطي كلمته، بما يسمى الديمقراطية المباشرة، للتعبير عن الآراء والمساجلة في القضايا من خلال الرؤية الفردية والجماعية. وبات السجال على مختلف صعده، مفتوحاً وبلا حدود مما يشكل مبدئياً إثراءً ونوعاً من التعددية الديمقراطية والراديكالية، فمن الثورة التونسية إلى المصرية والليبية والسورية وصولاً اليوم إلى ما يسمى «الثورة السودانية» و«الانتفاضة الجزائرية» سلاحاً قوياً في خدمة قضايا الشعوب من أقلياتٍ وأكثريات.
فقد بات لمستخدمي الإنترنت سلطة جديدة (انتُزعت من الميديا الكلاسيكية الجماهيرية) من خلال فيسبوك وتويتر ويوتيوب كسرت المعادلة والتوازن بين الوسائل التقليدية والجديدة وتفوقت عليها في مساحات انتشارها وأثرها بطبيعة أعدادها وأعداد أصدقائها.
والتطور اللافت أيضاً الذي تحقق في الشبكات الاجتماعية، إسقاط الحدود الفاصلة بين الحياة الخاصة والعمومية الفردية والجماعية أي تجاوز ما كان ثابتاً في الميديا الكلاسيكية السابقة. وكل يوم، بل كل لحظة، كأن الإنترنت بوسائله يحتفل بانتصاره، ويمدد حضوره، ويوسع سجالاته، ويعدد آراءه. إنها المساواة بين الجميع وللمرة الأولى في التاريخ يأخذ الكلمة من يشاء ويُدلي بدلوهِ. كأنها، وإن شكلياً، الديمقراطية التعددية تنفجر في كل السجالات والقضايا والمسائل.
لكن هذه الأدوات المستحدثة والمفتوحة على تطوير ذاتها تطويراً غير محدود، والتي فتحت عصراً جديداً في التبادل وانتشار المعلومات وسيرورتها، أوجدت أو أُوجد لها من خلال الممارسات وجوهاً سلبية تتعدى أحياناً كثيرة إيجابياتها. فنتيجة ضعف الحدود بين الخاص والعام، راح هذا التداول الحر يتخذ أبعاداً متصلة بالهويات والأعراق والطوائف والمعتقدات والحياة الخاصة: كأن بات كل شخص ذي هوية رقمية، محددة ونهائية يستخدمها كل واحد لتأكيد انتمائه إلى جماعة أو حزب أو ملّة أو نِحلة من خلال منظومة قيمه التاريخية، وممارساته ومواقفه: تم الخلط بين الموقف والرأي والفكرة وبين الواقع وما بعده، والحقيقة ومُلابساتها.
هنا بالذات، برز التقاطع مع ما يسمى «الأخبار المُلفّقة» مبيناً أن المشاركة في السجالات العمومية، يهدد الحقيقة والتاريخ من خلال استشراء نرجسيات فردية أو جماعية ومن خلال التلاعب بالمعلومات والوقائع مما أدى إلى تدهور السجالات العمومية، بطوابعها التعددية.
يرافق كل ذلك أن أشكال التحرر الذاتية تترجم أحياناً بطريقة فوضوية عشوائية غرائزية عنيفة، لتصيب المكونات والمبادئ الأخلاقية والدينية والاجتماعية في إطار متّسع للتفجّر العنصري والإثني وأشكال الكراهية والتعصب والانعزال. وهذا أدى إلى انفلاتٍ هيستيريٍ غير عقلانيٍ ينفي خصوصيات السجال الاجتماعي فتصبح وسائل مزادة ومُرتدة على المصالح بما فيها مُستخدمو هذه الوسائل.
بمعنى آخر، أن هذه الأدوات، التي وجد فيها الناس منصاتٍ للانفتاح على بعضهم والحوار، أصبحت جدرانٍ تحول دون أي تعددية. خصوصاً أن هذا المنحى ألغى الحدود بين الخطأ والصحيح، بين الواقع والمتخيَّل. وهذا يعني أن عبارة «ما بعد الحقيقة» حلت محل «الحياة والتاريخ». وهذا أدى إلى صناعة توتاليتاريات راديكالية متطرفة تعتبر فيها كل فئة أنها تملك الحقيقة دون سواها، وأن كل من يعارضها ليس خصماً بل عدو. هذه الديمقراطيات الراديكالية التوتاليتارية باتت تخضع لحركات وأنظمة ومذاهب استبدادية حتى بات كثيرها، خاضعاً لسلطات ديكتاتورية يستخدمونها للقمع والتزييف وتشويه كل تحرك أو سجال. إنها التعددية الراديكالية أو الديمقراطيات التوتاليتارية. وهنا مكمن خطورتها.