أحداث تسارعت، رفض وتنديد وشجب، أصوات على الملأ وأنين، ترتفع حدته من جسد الإنسانية، وأختها الحضارة، كل ذلك تلاشى من أمامي بفعل الصدمة حين رأيت بأم عيني مقطعاً يتراشق على صفحات التواصل الاجتماعي لأستاذ جامعي، لا أدري إن كان كما وُصف «مدير للجامعة»، يحاضر أمام آلاف الطلبة داعياً لقتل المسلمين، ويعلن بحماس وسط ضحكات وتصفيق حار عن تقديم دورات مجانية لذلك، وفي اللحظة ذاتها، يتساءل عما إذا كان إخراجه لمسدسه في القاعة قانونياً! مما يوقفنا على منصة اليقين بأن هنالك شرخاً في المنظومة الفكرية، وضبابية بين الحقوقية والقانونية لابد من التفريق بينهما.
إن إعلام الكراهية الذي صنع اليمين المتطرف، ورعى خروج أنيابه من الشرنقة، لم يكن محض مصادفة أو ظاهرة محفوفة بالجهل، بل بنى على تركيز محدد الحواف، يتكأ على التحريض مع سبق الإصرار والترصد، مختاراً «صراع الحضارات» ونهاية التاريخ، كنقطة انطلاق وورقة بيضاء لرسم شيطنته بفروعها الإعلامية التي تلاشت حدودها على مستوى العالم، أي المزيد من إلهاب الرأي العام المستند على تقارير وبرامج محترفة التشويه وغرز المغالطات التي استمرت لسنوات بشكل مكثف ومكرر داعيةً جميعها لربط صور الزعزعة والإرهاب بالأجانب وربطها بالإسلام خاصةً بصورة قاسية ومجحفة.
وأما عن «الألم العالمي» لمذبحة نيوزيلندا، فلقد سمعنا الإدانات من هنا وهناك، ولكن هذا لا يكفي، وأضع تحت لا يكفي مائة خط، ذلك أننا نصطف رؤساء وأكاديميون وعلماء والناس كافةً لرفض عمل ما إذا ارتكب من طرفنا، فالمسلمون صفاً واحداً يرفضون العدوان ولا يتوقفون على استنكار الفعل بل تتصاعد همم الباحثين تحقيقاً لضرورة المراجعات المنهجية والثقافية.
وبالإشارة إلى الوثيقة التي تركها المتطرف الذي ارتكب المجزرة التي لا يمكن وصفها إلا بالإرهابية، والتي تضم 74 صفحة، فلابد من الاستبانة والتنبه للخطر المحدق والذي لا يزال يتعالى دون صد لعواصفه المحملة بالسموم والكراهية والتطرف، وأظن أن المسؤول الأول فيها والذي لا بد من مراجعته هو الثقافة، فقد نثر أوراق وثيقته المعراة من الحضارة، والتي يؤمن بها أولاً بتميز «الإنسان الأبيض» عما دونه، واستحقاقيته للتفوق في عدائه للآخر، مقتنعاً بدرجة اليقين أن ذلك من حقه، مستجيباً ومستلهماً قوته من خطابات البابا «أوربان الثاني» الذي وجه أفكاره مقرونةً برغبة الرب. ولنا هنا أن نتمعن كيف يقلب شخص «مُوَلّى» ديانة حب وسلام، إلى فكرة حرب، بل ويبررها بأنها «الحرب العادلة» أو المقدسة – GUERRE SAINTE-، إذ يعتقد اعتقاداً مجزماً بأن الدول التي تنتشر فيها المسيحية «في الشرق» هي دول مسلوبة، ولابد من تحريرها، وتنويهاً للخطر الذي ذكرته آنفاً، ها نحن نرى تصريحات «معتقة»، تتحكم بسلوكيات وتوجهات أجيال اليوم وربما غداً، وهذا بحد ذاتها رسالة.
صحيح أن هذه الرسالة المكونة من عشرات الصفحات، لا تنفك تشعرنا جميعاً ببغض الإرهاب وفكره، وتجعل الأسى والحزن يتسلل لنفوسنا على ضحايا هذا العمل البشع الذي أراق دماء أرواح كانت تبحث عن السكينة والسلام في بيت الله، ولكنها في الوقت ذاته تعتبر قاعدة بدء وإعمال عقلي لتفكيكها وإيجاد الخلل، وطرح الحلول والبدء بالتأسيس لها، ومن ذلك فليس معيباً، أن تخرج الدول الغربية عن سياق الرفض والتنديد، لسياق الاعتراف بوجود الخلل وحله.
إن الثقافة لم توجد مصادفة، بل هي تجميع لا يخلو من الركام، ولذلك لابد العمل عليها بأمثل ما يمكن تحريراً لها من قيود «المصطلحات» الملغومة منها خاصةً. وما أعنيه هنا أننا بحاجة للوصول لمصطلحات نقية مبنية على فكر أنقى، تهشم حواجز العنصرية والتفرقة، وتشجع على الإدماج والاندماج، وترنو إلى التراحم والتسامح والوئام، وليتخذ الأفراد كافةً من حرية الآخرين إشارة حمراء تقف عندها حرياتهم، ومن «الآدمية» أساساً للجميع قبل الديانة أو العرق.
وفي هذا العالم الذي أصبحنا نرى فيه المسلمون -في بعض الدول- يستهدفون بشراسة، لابد من إعادة الصياغة وتجديد الإفهام، من الأطراف والثقافات كافةً، فالمسلمون ليسوا ضيوفاً على أحد بل هم إما مواطنون أصليون أو أبناء محرري أوروبا من النازية والفاشية، أو بُناة المدنية المعاصرة، وأصحاب كراسي استحقتهم، بل ومن حقنا أن نقول إنه وعلى سبيل الحضارة، تحتضن أرقى بقاع الإمارات العربية المتحدة كغيرها من البلدان العربية، مقيمين أوروبيين يقطنون بها ويعيشون بسلام وتراحم، ولا تجد من يضايقهم، أو يجتث ريعان حياتهم، فالمسلمون لا يريدون القتال إذ لم يكن له كائنة لا في ثقافاتهم ولا عقيدتهم.
ومرة أخرى نتبرأ ممن ينظر للآخر بكراهية، ونثمن وعي المسلمين وقدرتهم على ضبط النفس، تفويتاً لفرص الجماعات المتطرفة من الاستخدام المصلحي للأحداث، ونترحم على أرواح الضحايا، ربط الله على قلوب أهليهم...