يثير الهجوم المسلح على مسجدين في كراسيت شيرش جنوبي نيوزيلندا قبل أيام، والذي أسفر عن مقتل 50 شخصاً، جدلاً واسعاً حول اتجاه بعض المتطرفين اليمينيين في الغرب إلى ممارسة الإرهاب. ورغم أن هذا ليس الهجوم الأول من نوعه، فإنه الأكبر على الإطلاق منذ صعود الموجة اليمينية المتطرفة في عدد متزايد من الدول الغربية.
ولعل أهم ما في هذا الهجوم دلالته على أن الإرهاب اليميني قابل للتوسع في الغرب، مادام الإرهاب الذي يرفع رايات إسلامية، ويسيء إلى الإسلام، مستمر في الوقت الذي يزداد عدد المهاجرين واللاجئين المسلمين. فقد ترك منفذ الهجوم بياناً طويلاً يمكن أن نعده «مانفستو» الإرهاب الجديد المستند إلى أفكار قومية متطرفة شكلت مرجعيات للحركات النازية والفاشية التي صعدت في النصف الأول من القرن الماضي. ويُعاد تداول هذه الأفكار الآن، وتأويلها، في أوساط اليمينيين الأكثر تطرفاً في الغرب، على نحو يجعلها مؤهلة لأن تصبح مرجعيات لنمط جديد من الإرهاب.
لكن هل يصح وصف هذا الإرهاب بأنه أبيض؟ يبدو هذا الوصف جائزاً ليس فقط لأن من يتجهون إلى هذا النوع من العنف بِيض متطرفون في تعصبهم لجنسهم، ولكن أيضاً في ضوء استخدام اللونين الأحمر والأسود في وصف النمطين الأكثر شهرة للإرهاب حتى الآن. فقد بدأ إطلاق لون معين على نوع محدد من الإرهاب في ستينيات القرن الماضي. كانت منظمات يسارية متطرفة هي المصدر الرئيس للعنف آنذاك، قبل أن يبدأ الإرهاب المستتر وراء الإسلام في الانتشار. ونظراً لأن المنظمات اليسارية في مجملها ترفع أعلاماً حمراء، فقد وُصف هذا النوع من الإرهاب بالأحمر. غير أن التصاعد السريع لمنظمات تنسب نفسها للإسلام، وتمارس العنف، أدى إلى تركز الاهتمام العالمي على هذا النوع من الإرهاب، الذي وُصف بأنه أسود، لأن من يمارسونه يرفعون رايات سوداء.
وفى الوقت الذي أخذ «الإرهاب الأحمر» في الانحسار، وتفككت أو فُككت معظم منظماته، وألقى ما بقي منها السلاحَ.. أصبح «الإرهاب الأسود» في مقدمة جدول الأعمال العالمي بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن. وبلغ هذا اللون من الإرهاب ذروته مع تأسيس تنظيم «داعش».
وأسهم هذا الإرهاب، إلى جانب ازدياد الهجرة من دول مسلمة إلى الغرب، في تنامي تيارات يمينية متطرفة ومتعصبة بدأ بعضها في الجنوح إلى العنف، الأمر الذي أدى إلى ظهور نوع ثالث من الإرهاب الذي يمارسه متطرفون يمينيون. وتقوم الأفكار المتداولة في أوساط من يتجهون صوب هذا الإرهاب على تأكيد تفوق الإنسان الأبيض، والدعوة إلى حماية مستقبل الأطفال البيض من غزو المهاجرين وإرهابهم!
وقد بدأ الاهتمام بدراسة هذا اللون من الإرهاب العام الماضي بفعل ازدياد الهجمات المترتبة عليه في الولايات المتحدة حيث وصلت في عام 2017 إلى 31 هجوماً ضد مواقع تابعة لمؤسسات إسلامية. والمتوقع أن يتوسع نطاق هذا الاهتمام بعد هجوم نيوزيلندا، الذي يدل على أن «الإرهاب الأبيض» قابل للتصاعد بسرعة، في ظل الكراهية المتزايدة التي تنتشر في بعض الأوساط الغربية. وهذه حالة جديدة في الغرب، الذي عرف من قبل أشكالاً من التمييز على أسس عرقية، لكنها لم تقترن بمثل هذه الكراهية التي تبدو غير مسبوقة.
والمقصود بالتمييز نوع من الممارسات والسلوكيات التي تنطوي على التقليل من شأن الآخر، وإساءة معاملته، لكن من دون ممارسة العنف ضده في الأغلب الأعم. وقد عرفت الدول الغربية تمييزاً عرقياً بدرجات متفاوتة، لكن مقاومة هذا التمييز نجحت في إزالة مظاهره الرئيسة، لكن عدم اقتلاع جذوره الفكرية من منابتها ساهم في تصاعد الكراهية، التي تنصب ضد المهاجرين الباحثين عن فرص للعمل والحياة. ويستغل المؤمنون بأفكار تفوق الجنس الأبيض، والخائفون على مستقبله، هذه الكراهية للربط بين ازدياد أعداد المهاجرين من بلدان ذات أغلبية مسلمة، والإرهاب الذي يمارسه من ينسبون أنفسهم للإسلام، لدعم حركات ومنظمات جديدة يمكن أن يصبح بعضها وقوداً لإرهاب أبيض.
غير أنه يتعين علينا ألاَّ ننسى مسؤولية الإرهاب الأسود عن تصاعد هذا النمط الجديد من العنف، وأن مواجهته في منطقتنا إحدى أهم وسائل محاصرة «الإرهاب الأبيض» قبل أن يتوسع نطاقه، ويزداد خطره.