قبل نحو شهرين خالطت رئيسة الوزراء النيوزيلندية جاسيندا أرديرن النخبة المالية العالمية في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس. وهناك، أشادت بجهود مكافحة تغير المناخ إلى جانب الأمير البريطاني وليام، ودافعت عن مخططات حكومتها المعنية بـ«الرفاهية» المجتمعية، وليس الاقتصادية فقط. وفي عتاب مهذب للرئيس الأميركي دونالد ترامب وساسة يمينيين آخرين، عبّرت أردرن عن أملها في أن يدرك قادة الدول قيمة وأهمية سياسات داخلية «رحيمة أكثر» تجنّب العالم «وعد الحمائية والعزلة الزائف».
أرديرن، التي دفعت جاذبيتُها الشخصية حزبَ العمال للفوز بالانتخابات عام 2017، ظهرت في صورة على مجلة «فوغ» وعلى برنامج حواري مسائي على التلفزيون الأميركي. وعندما أنجبت طفلة أثناء فترة حكمها للبلاد، ثم جلبت رضيعتها ذات الثلاثة أشهر إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة العام الماضي، جعلت من نفسها أيقونة نسائية عالمية.
لكن ليس كل من كانوا في دافوس انبهروا بالزعيمة الشابة (38 عاماً) والليبرالية والكاريزمية. فهذا مدير صندوق غربي له تعاملات مع منطقة آسيا والمحيط الغربي (طلب عدم الكشف عن اسمه) اعتبر في حديث مع مدونة «تودايز وورلد فيو» التابعة لصحيفة «واشنطن بوست»، أن أرديرن «ليست سوى نسخة أخرى أقل إزعاجاً من جاستن تريدو تحكم بلداً سهلاً»، في انتقاد واضح لها ولنظيرها الكندي، الذي يُعتبر شخصية أخرى محبوبة من قبل يسار الوسط، والذي يحاجج منتقدوه بأنه بالغ في استغلال صورته الوردية ولم يحقق أي إنجازات حقيقية.
ومثلما كتبت الزميلة في صحيفة «واشنطن بوست»، آنا فايفيلد، الاثنين الماضي، فإن أرديرن «كان لديها الكثير من الاختبارات والتحديات»، و«إن طريقة إدارتها للاقتصاد انتُقدت، وجهودها لإدخال سكن أرخص شابتها أخطاء بيروقراطية محرجة، ومنتقدوها يقولون إنها أسلوب من دون جوهر».
ثم حدث يوم الجمعة الماضي الهجوم الإرهابي في مدينة كرايس تشرتش، على يد عنصري أبيض، ضد مسجدين، قُتل فيهما 50 شخصاً، فأصبحت أرديرن وجه حزن بلدها وألمه، وأيضاً قوة تصميمه وعزيمته.
المراقبون أشادوا بالهدوء والتعاطف اللذين أبانت عنهما عقب أسوأ جريمة قتل جماعي في تاريخ نيوزيلندا الحديث. فقد قادت وفداً من أحزاب عدة من العاصمة ويلينغتون إلى كرايس تشرتش مرتديةً حجاباً أسود، وعزّت أقارب الضحايا وأصدقاءهم وشاطرتهم حزنهم. كما وعدت بالتكفل بمصاريف دفن كل القتلى. وعبّر مصور صحافي غطى زيارتها عن ذهوله من رباطة جأش رئيسة الوزراء وتعاطفها.
وقال المعلق السياسي برايس إدوراد من جامعة فيكتوريا في ويلينغتون لرويترز: «إن تصرف أردرن مذهل واستثنائي، وأعتقد أنها ستكون محل إشادة داخلياً وخارجياً».
أرديرن ندّدت فوراً بالأيديولوجيا القومية التي كانت وراء المذبحة، ودافعت بشدة عما تؤمن بأنه قيم بلدها. والواقع أن تفاصيل حصيلة القتلى نفسها كانت مؤشراً على التنوع الفتي في نيوزيلندا؛ إذ كان من بينهم مصلون من باكستان والهند وبنغلاديش وتركيا وماليزيا وإندونيسيا والصومال وأفغانستان.. وكان أصغرهم طفل في الثالثة من عمره، ولد في نيوزيلندا لوالدين لاجئين من الصومال».
«إننا نمثل التنوع والعطف والرحمة»، هكذا قالت أردرن، مضيفة: «إننا وطن لمن يشاطروننا قيمنا، وملاذ لمن يحتاجونه. وتلك القيم لن تتزعزع بهذا الهجوم ولا يمكن أن تتزعزع».
وانتقدت أرديرن، بشكل مهذب أيضاً، ترامب، رافضةً محاولاته التقليل من شأن التهديد المتزايد لإرهاب العنصريين البيض، وداعيةً إياه إلى إظهار تضامنه مع «الجاليات المسلمة».
ومع تألق صورتها عقب هذه المأساة الوطنية، تجد أردرن نفسَها في وضع مماثل للوضع الذي عاشه رئيس الوزراء النرويجي (وأمين عام «الناتو» حاليا) ينس ستولتنبرغ، الذي حظي بالإشادة عن تعاطفه وتضامنه ورباطة جأشه بعد أن أقدم إرهابي قومي أبيض آخر، هو أندريس بريفيك، على قتل 77 شخصاً في 2011. وكان قد تعهد في خطاب شهير بمحاربة «الكراهية بالحب». لكن هالة ستولتنبرغ سرعان ما بهتت وتلاشت، لاسيما بعد أن وجد تحقيقٌ في 2012 أنه كان بإمكان حكومته إحباط الهجوم. فخسر انتخابات 2013.
وحالياً، تبدو آفاق أرديرن السياسية أقوى. فبينما يتراجع ترامب على تويتر كل أسبوع، وتصارع رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي مشكلة بريكست، يمكن القول إن تصميم أردرن وقناعاتها يرفعان السقف إلى مستوى أعلى بالنسبة للزعماء الآخرين.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»