بين وثيقة الأخوّة الإنسانية التي صدرت في أبوظبي عن البابا فرنسيس بابا الفاتيكان والدكتور الشيخ أحمد الطيب إمام الأزهر الشريف، والجريمة ضد الإنسانية التي ارتكبت في نيوزيلندا، مسافة معنوية أبعد من المسافة الزمنية بين الموقعين.
في أبوظبي رُفع شعار الأخوة، ووُضعت خريطة طريق لبناء صرح هذه الأخوة على قاعدة «لكم دينكم ولي دين»، وأن الله يحكم بيننا يوم القيامة فيما كنا فيه مختلفين، وأنه «لا إكراه في الدين»، وأن الكرامة حقّ لكل إنسان، وأن الحرية هي الأساس وهي القاعدة التي يقوم عليها هذا الحق، وأن الاختلاف بين الناس شرعة إلهية، وأن محاولة إلغاء الاختلاف بالعمل الفكري أو بالعمل الإرهابي هو تحدّ لهذه الإرادة الإلهية، وأن الله سبحانه وتعالى الذي نعبده جميعاً كتب على نفسه الرحمة، وأنه هو الرحمن الرحيم.
في أبوظبي أيضاً طوى المرجعان الإسلامي والمسيحي صفحات من سوء التفاهم، وفتحا معاً سجلاً جديداً – وليس صفحة جديدة- للعمل معاً من أجل خير الإنسانية جمعاء، ورسما خريطة طريق لبناء المستقبل الإنساني المشترك على قواعد المحبة والاحترام. فالمسلمون في العالم (وعددهم مليار و600 مليون إنسان)، والمسيحيون في العالم (عددهم 2,2 مليار إنسان)، يشكلون معاً نصف البشرية عدداً. وهم معاً يشكلون أكثر من نصفها ثقافة وحضارة وتأثيراً.
ومن هنا فإن وثيقة أبوظبي في مضمونها وفي رمزية الموقّعين عليها، ليست مجرد زائد واحد إلى عدد المواثيق الدولية، بل هي تأسيس جديد لعالم جديد يقوم على التسامح والمحبة والأخوة.
ومن هنا تتكشف وحشية ما حدث في نيوزيلندا. فالجريمة التي استهدفت أبرياء مؤمنين يؤدون صلاتهم لله في بيت من بيوته التي «أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه»، استهدفت ليس جماعة من الأبرياء الأطهار فقط، ولكنها استهدفت بكل ما اتسمت به من وحشية وبربرية، الروحَ الإنسانيةَ الساميةَ التي أطلقها البابا فرنسيس والإمام الطيب من أبوظبي. فالجريمة لا تقف فقط عن حدود القتل الجماعي الذي لا يعرف تاريخ الإنسانية الحديث له مثلاً، ولكنها تتعدى ذلك إلى ما هو أخطر وأسوأ. وهو إثارة الغرائز العصبية في اتجاهين متناقضين:
الاتجاه الأول محاولة تحويل المجرم القاتل إلى بطل وإلى قدوة لدى الفئات المتعصبة التي يكاد لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات التي انتشرت فيها الشعبوية الرافضة للآخر. مما يعني إشعال المزيد من الفتن على خلفية ارتكاب المزيد من مثل هذه الجرائم.
أما الاتجاه الثاني فهو محاولة إثارة غرائز في الاتجاه المعاكس، أي في الاتجاه التحريضي للانتقام من الجريمة المرتكبة في نيوزيلندا.
وبين خطر الاقتداء وخطر الانتقام، فإن العالم كله قد ينتقل إلى كف عفريت. بل قد يصبح ملك العفاريت التي تعيث في الأرض فساداً.
إن الصراع بين الخير والشر يرافق الإنسانية منذ الأخوين قابيل وهابيل، وهو صراع مستمر.
وقد نزلت رسالات السماء لتكون نبراساً يضيء للإنسان طريق الحق والخير والسلام. ومن وحي ذلك كان الخير في وثيقة أبوظبي، وكان الشر في جريمة نيوزيلندا.
وقف العالم كله مع وثيقة أبوظبي واعتبرها إنجازاً إنسانياً وقدوة حسنة، كما وقف العالم كله أيضاً متعاطفاً مع ضحايا وأهالي مجزرة نيوزيلندا، واعتبرها جريمة ضد الإنسانية ونموذجاً للوحشية التي يمكن أن يصل إليها فاقدو الضمير. إن التكامل بين هذين الموقفين يشكل الأساس لتعطيل أي محاولة سواء للاقتداء بالمجرم، أو للانتقام منه على طريقته ومثاله. وأساساً فإن «من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً». وقد أعادت وثيقة أبوظبي التذكير بهذه الآية القرآنية الكريمة. وفي الأساس أيضاً أن «ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً».
وفي وثيقة أبوظبي بين البابا والإمام دعوة مسيحية إسلامية لإحياء الناس جميعاً على قاعدة احترام الاختلاف والتعدد، وفوق ذلك لاحترام حقّ الحياة، تأكيداً على الأخوة الإنسانية.
لقد سبق للبابا يوحنا بولس الثاني أن رفع شعار «لا يوجد دين إرهابي، ولكن يوجد إرهابيون في كل دين». وهو شعار تبنّاه البابا فرنسيس، وردّده أيضاً. ثم عكسته وثيقة أبوظبي. وهذا يعني أن الجريمة التي ترتكب باسم الدين –أي دين- هي جريمة ضد الدين نفسه أولاً.. وضد كل الأديان. وفي هذا الإطار تقع جريمة نيوزيلندا ويقع مرتكبها السفاح المتوحش.
ظاهرياً يبدو ارتكاب الجريمة أبعد صدى من الدعوة إلى الأخوة. ويبدو العدوان أشد أثراً من المحبة. لكن ذلك وهم. فالجريمة كالعاصفة تدمر وتتلاشى ولا تترك إلا كل ما هو سيء. أما المحبة فبلسم يبقى ويستمر.. وينمو خيراً وسلاماً.