تعرضت رئيسة الوزراء البريطانية، تريزا ماي، لضربة مهينة أخرى في البرلمان الإنجليزي يوم الثلاثاء الماضي حين رفض مشرعون مرة أخرى خطتها للانسحاب من الاتحاد الأوروبي. وهذا هو الرفض الثاني بعد إحباط خطة سابقة في يناير الماضي. وأنفقت رئيسة الوزراء أسابيع تحاول صياغة صفقة أكثر ملاءمة سياسياً، وسعت جاهدة لأن تصور التنازلات التي فازت بها من المفاوضين الأوروبيين باعتبارها كافية للتوصل إلى صفقة. لكن لم يقتنع بهذا عدد كاف من «المحافظين»، أي الحزب الحاكم.
ومن المفترض أن تخرج حكومة «ماي» ببريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 29 مارس الجاري. لكن هذا والكثير من المستقبل السياسي لثاني أكبر اقتصاد في أوروبا تحوطه حالة من الضبابية.
وفي البداية، أعلنت ماي بثقة أن «بريكسيت هو بريكسيت» في تأكيد على عزم حكومتها على تنفيذ نتيجة الاستفتاء بصرف النظر عن الكلفة. لكن مع مرور الوقت، خفت بريق الشعار السياسي بعد أن أدركت ماي والمؤسسة السياسية البريطانية برمتها التعقيد الذي يصيب بالدوار لعملية الانسحاب من التكتل. وهناك جدل محتدم بشأن بريكسيت «قاسٍ» وآخر «رقيق» مما جعل أنصار بريكسيت يتركون السفينة حين اشتدت العاصفة. وليس من الواضح، الآن، إذا ما كان لبريكسيت أي معنى على الإطلاق. وحذر خبراء من أن عدم التوصل إلى صفقة يحمل مخاطر شديدة لاقتصاد البلاد ويصيب التجارة بالشلل ويخلق اضطرابات في الموانئ ويدمر سلاسل الإمداد لكل شيء من المتاجر إلى المستشفيات.
ومسؤولو الاتحاد الأوروبي أوضحوا أنهم ليسوا مهتمين بخوض جولات جديدة من المحادثات مع بريطانيا. ومن الصعب توقع تذليل الخلافات الكثيرة العصية على الحل التي اعترضت سبيل خطة ماي الحالية للانسحاب. وحذرت «ماي» بعد أيام قضتها في مفاوضات شاقة خلف الأبواب المغلقة قائلة «التصويت ضد المغادرة دون صفقة وطلب التمديد لن يحسم المشكلات التي نواجهها. الاتحاد الأوروبي يريد أن يعرف استخدام هذا التمديد، وهذا البرلمان يتعين عليه أن يجيب على هذا السؤال».
وصرح «تشارلز جرانت» مدير «مركز الإصلاح الأوروبي» البحثي ومقره لندن، لصحفيين أن البرلمان سيفرض سيطرة أكبر في عملية «بريكسيت» وسيسعى إلى «بريكسيت رقيق». وأكد «جرانت» أن هذا قد يشيع الانقسام في حزب «المحافظين» ويتمخض عن محاولة جديدة للإطاحة بماي من منصبها. وأضاف «في مثل هذه الظروف من الممكن أن يحاول الجناح اليميني في حزبها الإطاحة بها أملاً في الدفع بزعيم مختلف للحزب».
ولم يظهر كلام كثير عن احتمال إجراء استفتاء ثان. وبينما يرى محللون كثيرون أن إجراء استفتاء ثان كوسيلة للبقاء في الاتحاد الأوروبي قد يكون أكثر الوسائل معقولية للخروج من الفوضى الحالية، فمازال هذا الإجراء غير مستساغ سياسياً لكل أحزاب بريطانيا البارزة. وتجادل «ماي» في أن إجراء تصويت ثان يضع بريطانيا على منحدر زلق ويمهد السبيل لدعوات إلى إجراء استفتاء ثالث إذا ظل بعض جمهور الناخبين غير راضين عن النتيجة. وبدلاً من المطالبة باستفتاء جديد، حث «جيرمي كوربين» زعيم حزب العمال المعارض على التفكير في بريكسيت «رقيق» يبقي بريطانيا في اتحاد جمركي مع الاتحاد الأوروبي. وأعلن أيضاً أن الوقت قد حان لإجراء انتخابات عامة.
لكن وزير الخارجية بوريس جونسون يتبنى موقفاً مختلفاً للغاية، ويصر على أن عدم التوصل إلى صفقة هو أفضل وسيلة للمضي قدماً على خلاف كل الأدلة التي تشير إلى العكس. وأكد «جونسون» على أن الخروج دون صفقة هو «في النهاية، الطريق الآمنة الوحيدة للخروج من الفوضى ولاحترام الذات». وكان «بوريس» واحداً من زعماء حملة «بريكسيت» ووعد بأن الانسحاب من التكتل سيمنح بريطانيا قوة ورخاء أكبر على المسرح الدولي.
لكن مراقبين يشيرون إلى الغطرسة والمراوغة التي أدت إلى انتصار حملة المغادرة. وانتقد «رفاييل بير»، كاتب العمود في صحيفة جارديان، «سوء الحسابات الأساسي» لأنصار «بريكسيت» وفريق ماي للتفاوض و«التوقع غير المستساغ بشدة الذي مفاده أن تكتلاً يتألف من 27 دولة، كل واحدة منها تعرف قيمة الوحدة والتضامن، سيكون الطرف الأضعف في التفاوض. الطريق لإهانة ماي بدأ بالتمركز الغريب حول الذات الذي دفع إلى توهم أن دولة تسعى للخروج ودون فكرة عن العلاقة التي تريدها مع باقي أوروبا قد تملي شروط خروجها». ومع عدم قدرة السياسيين البريطانيين على التوصل إلى اتفاق بشأن ماهية بريكسيت أوعلى التراجع فيما يبدو عن مسعى الخروج، يتعين على المسؤولين الأوروبيين وعلى الجميع أن يستعدوا لأسابيع وربما شهور أخرى من التخبط.
*كاتب متخصص في الشؤون الخارجية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»