لعل التعبير الذي يوصّف ما جرى في نيوزيلندا الأيام الماضية من اعتداء على مصلين في مسجدين من مساجد مدينة «كريست تشيرش»، وسقوط عشرات القتلى والمصابين، هو أنه تسونامي كراهية، من النوع الذي يرسخ العداوات ويؤجج الصراعات العرقية والدينية على حد سواء.
ما قام به اليميني المتطرف «برينتون تارانت»، أخطر بمئة مرة ومرة من حوادث الإرهاب التقليدية التي درج عليها أصحاب ذلك التيار المنحرف فكرياً، سيما وأنه خلف من وراءه «مانيفستو»، يسعى إلى أن يكون بمثابة دعوة مستمرة ومستقرة للشر المستطير القادم من بعيد.
لا نروج ولا ينبغي أن نفعل لما قاله سفاح نيوزيلندا، غير أنه من المهم الإشارة إلى المنعطفات الفكرية التي جاء بها لخطورتها على التعايش الإنساني، لا سيما في الغرب الأوروبي والأميركي بنوع خاص، وكنا نظن إلى وقت الفاجعة أن أستراليا ونيوزيلندا بعيدتان كل البعد عن الأثر السيئ للتطرف العقلي والقلبي، لكن من الواضح أن أخطاء وخطايا وسائط التواصل الاجتماعي المعاصر، جعلت من العالم ما هو أصغر حجماً من القرية الكونية التي حدثنا عنها عالم الاجتماع الكندي الأشهر «مارشال ماكلوهان»، في ستينات القرن المنصرم.
«تارانت» في مقدمة صفحاته السوداء يعيد من جديد الإشارة إلى مقولة «أسلمة أوروبا»، إذ يحذر الأوربيين من أن تراجع معدل مواليدهم، سيجعل من العرب والمسلمين المستخلفين الجدد في تلك البلاد، ويصف الهجرات وحركات اللجوء التي جرت بها الأقدار في الأعوام الأخيرة بأنها «غزو ثقافي»، وأنه إنْ لم تتم مكافحة الهجرة الجماعية والخصوبة البديلة أي استجلاب سكان غير أوروبيين إلى البلاد لمعالجة تراجع أعداد المواليد، فسيؤدي ذلك إلى الاستبدال العرقي والثقافي الكامل للشعوب الأوروبية... هل تذكر وجهة النظر هذه برؤى نازية سابقة كانت تؤمن بفكرة الجنس الآري والعرق النقي، تلك التي تسببت في حرب عالمية ثانية أهلكت الزرع والضرع، وخلفت وراءها أكثر من سبعين مليون قتيل؟
يعود بنا «تارانت» إلى أزمنة الصراع اللوجستي والعقلي مرة واحدة، فمفرداته تحمل عناوين مثل «الغزاة»، ويقصد بهم المهاجرين حتى وإنْ كانوا شرعيين، ويمضي إلى تقسيم الأرض مناطقياً بين أجزاء تخص الرجال البيض، وأخرى خاصة بالملونين، ما يعني انه يستخدم نفس الرؤى المانوية لتقسيم العالم إلى فسطاطين، واحد للخير وآخر للشر، الأشرار والأخيار، بل إلى أبعد من ذلك، فان الذين لهم دالة على قراءة التاريخ، سيدرك أن هذا الفكر العنصري كان ولا يزال سبب صراعات وحروب حول العالم وفي الشرق الأوسط خاصة، من جراء القول بشعوب منتقاة وأخرى ليست إلا «الجوييم» أو الأغيار.
لا يؤمن «تارانت» بالمسارب الشرعية التي يمكن من خلالها تغيير وقائع الحياة المعاصرة بصورة ديمقراطية أو سياسية، وجل عقيدته تتمحور في إظهار العنف الدموي كي يكون أداة لردع الآخر، وإجباره على الرحيل، حتى وإنْ كان هو وعائلته يقعان ضمن سياق المهاجرين، الذين عرفوا طريقهم إلى نيوزيلندا قبل عدة عقود وليس أكثر.
أحد الأسئلة التي شغلت رجال التحقيقات الجنائية بعد الحادث مباشرة: «هل نحن أمام حادث فردي، ضمن سياق ما اصطلح مؤخراً على تسميته بالذئاب المنفردة، وإن على جانب تيارات اليمين المتطرف، وليس «الدواعش» فحسب، أم أن تارانت جزء من خلية أكبر وأكثر خطورة؟
يجيب، وفي جوابه مأساة واضحة..«لست عضواً في أي منظمة أو مجموعة، رغم أنني تطوعت بالعديد من المجموعات القومية وتفاعلت مع العديد من المجموعات الأخرى».
مانيفستو الرجل سيئ الذكر يفتح أعيننا على الأسوأ الذي لم يأت بعد، إذ يذكر أنه لم يتلق دعماً من مجموعات يمينية مشابهة لأفكاره، وإنما اتخذ قراره بنفسه، وإن كان قد تواصل مع جماعة «فرسان المعبد الجديد»، للحصول على دعمهم، والمصطلح الأخير يدعونا لفتح ملفات قديمة تعود إلى زمن حروب الفرنجة كما اسماها العرب، والصليبية كما رأها الأوروبيون قبل نحو ثمانية قرون، ناهيك عن البحث فيما وراء نظرائهم من فرسان المعبد الجديد، ومن هم وأين يتواجدون، وإلى ماذا يسعون، وهم في كل الأحوال ليسوا إلا جماعة واحدة ضمن جماعات كثر على هذه الشاكلة.
أحاديث القاتل المكتوبة عبر أكثر من سبعين صفحة توضح لنا أننا أمام منظومة فكرية جنونية وشريرة، فهو بحسب اعترافاته لا يقتل من أجل الشهرة، بل لإحداث ما وصفه بأنه هزة ارتدادية تمتد لسنوات، مما يحرك الخطاب السياسي والاجتماعي، ويخلق جواً من الخوف والتغيير، وهذا هو المطلوب.
الطامة الكبرى التي تعزز مشاعرنا من أننا بالفعل أمام تسونامي كراهية تكمن في إقرار تارانت بأنه لا يشعر بأي ندم، بل على العكس فقد كان يتمنى أن يقتل المزيد.
لا مكان للتعايش الإنساني في زمن تسونامي الكراهية...ما الحل؟ إلى قراءة قادمة بإذن الله.
*كاتب مصري