ثلاثة أحداث تصدرت الأسبوع الماضي اهتمامات الرأي العام وشبكات التواصل: تصاعد العنف الذي يمارسه فتيان «السترات الصفر»، في أنحاء فرنسا وخصوصاً في باريس. ثم المجزرة الجماعية التي ارتكبها بريتون تارنت في المسجدين في نيوزيلندا وبشكلٍ أقل وملتبس المقتلة (ثلاثة أشخاص) التي نفذها شاب تركي في هجوم أوترخت بهولندا.
وإذا كان من جوامع مشتركة بين الأحداث الثلاثة فهي الحقد، الذي يكاد أن يكون مقدساً وفاعلوه مقدسين: فالسترات الصفر وبطريقة هاذية صبّوا غضبهم وكراهيتهم على باريس بطريقة غير مسبوقة: إحراق المحال التجارية والسيارات ونهب المؤسسات وممارسة عدائية غير مبررة على الناس. والأدهى أن هؤلاء وضعوا نصب أعينهم جادة الشانزيليزيه رمز باريس الحضارية والثقافية وحوّلوا أجزاء منها ركاماً وشظايا وحرائق وحُطاماً. إنها لغة الحُطام تبدو وكأنها وصلت إلى أماكن عميقة من حقدهم، دمروا تماثيل وأنصاباً ورموزاً وطنية تتصل بالحاضر والماضي. وكأن كراهيتهم لا تكتفي بنفي التاريخ وتشويش الجغرافيا وإنكار أفكار التنوير وإنجازات النهضة الأوروبية. طال حقدهم كل شيء، الصحافة والديموقراطية والسياسة والحوار والمسلمين واليهود والأفارقة وماكرون.
لكن مجزرة المسجدين مفهومة (جنون السترات الصفر مجهول الهوية، مزيج من المتظاهرين السلميين وآخر من قُطّاع الطرق واللصوص)، تتخذ بُعداً دينياً: الكارهية الدينية للمسلمين الذين يعتبرهم قاموس تارنت «غُزاة» ومن صنوف بشرية دونية بالنسبة للعرق الأبيض الصافي المتفوّق. هنا في المسجدين عودة مباشرة إلى النازية بمفهومها الإبادة العرقية (تفوّق العرق الآري) وكأننا بتنا نعيش في سنوات الثلاثين من القرن الماضي التي شهدت صعود النازية والفاشية. إنها روح الإبادة والعدم.
ولو كان لهذا الموتور أن يقتل كل مسلمي العالم، لما تأخر، فهؤلاء بالنسبة إليه غُزاة وإبادتهم نوع من الجهاد المقدس. الحقد المقدس، القتل المقدس. النبذ المقدس، وكل ذلك بمشهديةٍ معلنة مصورة وهذه ظاهرة جديدة مع سواها: فما كان مكبوتاً في صدور العنصريين من قبل بات يُعلم بلا خجل بل بفخر على شبكات التواصل وأمام العالم لأنه في منظورهم سيلقى التأييد والتصفيق والدعم والتقليد والعدوى. بل كأن هذا المجنون تارنت، تحول مخرجاً مسرحياً تجريبياً وأن الشخصيات والديكورات تنتمي إلى المسرح الطبيعي.
صحيح أن ما قدمه تارنت من عرض دموي، ليس جديداً لا في التاريخ القديم ولا الحديث: نحن نتذكر أن بعض منصات التواصل الإعلامية، كانت تبث خطب قادت إرهابيين، مثل أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وكلنا يعرف أن «داعش» وحزب الله وفيلق القدس، كانت تصاريحهم وتحركاتهم مصورة في حروبهم في سوريا والعراق ومع الحوثيين في اليمن.
أما الشاب التركي الذي قتل ثلاثة أشخاص في هجوم (أرترخت – هولندا) وقُبض عليه بعد مطاردات الأجهزة الأمنية، لكن يبدو حتى الآن أن هناك التباساتٍ حول دوافع جريمته.
لكن ما هو بارز في مختلف هذه الجرائم وسواها أنها تمازجت بأسبابٍ سياسية عنصرية اجتماعية دينية، في ظواهر مرضية تتمثل بالعدوى: فالقتل عدوى والعمليات الانتحارية عدوى. والموت المجاني عدوى. والتعصب والمشاعر القومية المتطرفة عدوى وحتى الكراهية عدوى: كأننا نعيش في عصر الأوبئة الفكرية والنفسية: الطاعون العرقي، الكوليرا الهوياتية، والجرب السياسي. كل ذلك يتفشى في العقول المغسولة وفي فجوات الجهل وفي بروز العنف. ويكفي مثلاً أن نقارن بين ممثل مجزرة المسجدين تارنت وبين النرويجي أندريه بريفيك (قتل سبع وسبعين شخصاً عام 2011 ببرودة تامة) مبرراً عمله بـ «حقن دماء البيض» حتى تبدو لنا الطريقتان متماثلتين، مفاجأة ضحاياهم، وقتلهم بمتعةٍ عالية وبمنهجية دقيقة.
إنها سياقاتٌ متواصلة (ونتوقع تصاعدها) متشابهة وإن اختلفت الأهداف أحياناً لكن كلها تصب في كراهياتٍ فاضت قوتها وتفجرت مكبوتاتها ومخزوناتها وتراكماتها.
فهي لم تهبط من عدم بل نمت في أرضٍ صالحة وظروفٍ مواتية مهدت لها وغذّتها اتجاهاتٌ عديدة شعبوية أوروبية وأميركية وسواها، من أحزاب وسياسيين وكُتّاب وصحفيين ومفكرين. لكن إلى ذلك تُحال أسباب هذا الجنون والتطرف إلى حالاتٍ اجتماعية واقتصادية ونفسية، منها شعور هؤلاء بعدم المساواة، وبخيانة الديمقراطية أسبابهم خصوصاً إذا انحرفت ليشعر كثير من المواطنين بأنهم مستفردون مهملون محتقرون بل غير موجودين. فماذا يفعل شخص أو مجموعة أن لا جدوى من وجودهم، وأنهم مجرد كميات منسية من الكائنات الطفيلية. من هنا بالذات وكما قال ابن رشد الفيلسوف العربي قبل 1000 عام: «الجهل يقود إلى الخوف، والخوف يقود إلى العنف، والعنف يقود إلى الحقد»: أنا أكره إذاً أنا موجود «وأنا أقتل فأنا موجود» «أنا أدمّر فأنا موجود» و«أنا أنفي الآخر سواء كان السلطة أو المهاجرين أو المسلمين أو الأقليات فأنا موجود»، أي موجود بشروط إبادة الآخر، لكن في النهاية هذا الاتجاه ليس أكثر من فعل الانتحار لا ينفع أصحابه ولا يلغي أعداءه بل يسقط في اللامعقولية العبثية، يتجوهر فيها القتل وتلمع فيها الكراهية وتطفو على رمادها العزولات والانكفاءات.