الصادم الحقيقي الذي مرّ بين الصور المتسارعة خلال الفترة الماضية، هو أن يشاهد العالم تحية الرجل المشهور ب «مرحباً أخي»، ويكتفي بموقف الشاب الملقب بـ «فتى البيضة»! فقد قدم ذلك الرجل أبهى صورة لغلبة التعايش والتسامح والوئام حتى في لحظة التعدي عليه - وهو ما يستبعده من جُبِل على التعايش- خلال الحدث المؤسف في نيوزيلندا.
وفي هذا السياق، لابد من إبراز صورة إدارة الأزمات المثلى التي قدمتها جاسيندا أردرين رئيسة وزراء نيوزيلندا، إذ أرغمت العالم للإنصات لها كنموذج مبهر وفريد، بما عكسته ابتداءً بلباسها حين مواساتها أهالي الضحايا، ومشاطرتها باقي الأفراد برصف إكليل زهور، لأرواح من ظلموا، وتصريحاتها بعمق شعورها بالظلم والغضب لما حصل، وابتداء الجلسة البرلمانية بآيات قرآنية، وقرارها لنقل الأذان يوم الجمعة الماضي عبر وسائل الإعلام المختلفة، بل إن ما قرأ من الذكر الحكيم، إضافة لما قرأته من السنة الشريفة، يعكس مدى احترامها المقصود للمنظومة الفكرية للمسلمين أولاً والوجدانية ثانياً.
كل ذلك وأكثر مَثَّل إجراءات رسمية ذكية وإنسانية بالوقت نفسه، ولكنها أتبعت ذلك بقوننة وحركة تشريعية استشعرت مجساتها اقتراب خطر عالمي من جسد نيوزيلندا «الأم الجامعة» على حد وصفها، إذ تبعت قرار تأمين المساجد بحماية مسلحة لحين عودة الطمأنينة للصفوف المسلمة، بإصدار قانون حظر الأسلحة ذات الطابع العسكري، كما خاطبت دولتها أقطاب مواقع التواصل الاجتماعي، لإعادة النظر في صلاحيات تدفق المعلومات، بناء على مضمونها.
الصورة المقدمة من جاسيندا «الإنسانية»، تعتبر أبرز رسالة خلال هذه المرحلة والتي تدعونا للسمو فوق كل الاختلافات أو الفوارق، فلم يعد للعمر أو اللون أو الانتماء الديني، أو الجنس أي صلة بثقل ما يقدم ويؤدى من واجبات تجاه الإنسانية، فحياة جاسيندا السياسيّة قطعت أشواطاً مقارنةً بسنّها. رئيسة الوزراء النيوزيلاندية ذات الـ38 عامًا، المولودة في عائلة متواضعة، والمتأثرة بمشاهد الحرمان والإدمان التي أحاطت بمجتمعها خلال سنوات عمرها المبكرة، لتخلق منها دوافع لوعيها السياسيّ وتشكيلها الرصين المنطلقَ من احترام الآخر والاعتراف بحقوقه بل والسعي للحفاظ عليها، وصونها من المساس.
فن «إدارة خطاب الكراهية» الذي طرح على مضمار العالم، والذي كسب احترام فاق المليار ونصف إنسان، يدعونا لاستثمار هذه الخبرة الناضجة، سواء في إدارة الأزمات وتحويلها لمنصات داعية لرأب الصدع والتقارب والتعايش بسلام، أو في منحى التفكير والثقة بالأجيال الشابة الصاعدة والبانية، والتي تعتبر الأقدر على استكمال رسالة الوئام العالمي، إذ يجب التعامل مع نواتج الأحداث بشكل عقلاني واعٍ، وهذا ما يدعو للإمعان بمضامين «الوثيقة المسمومة»، التي خلفها إرهابي العملية المذكورة، وما حملت من رسومات وخرائط ورموز تاريخية، وقلبها لأدوات ومفاتيح لفك لغز التطرف والإرهاب، وقصف جذورها قبل فروعها الآخذة بالترعرع في بعض الدول، مستغلةً ظروفها وأزماتها.
من ناحية أخلاقية لفتت «جاسيندا» العالم بوعيها وحنكتها بترفعها عن إبراز وتصدير أو ذكر اسم الإرهابي، وهذا ما دفعني لعنونة المقال باسمها، ومن ناحية أخرى تبرز لنا هذه التجربة، مبررات واقعية لإصرارنا كمجتمعات ودول، على إنجاح ودفع خطة التنمية العالمية الشاملة، والتي تقوم على جعل المواطنة هي الأساس في المجتمعات الإنسانية، إذ سطرت جميع الإنجازات من منطلق الحرص على صون صورة نيوزيلندا كواحة سلام ووئام، بغض النظر عن الأجناس والأعراق والأديان، كما أضافت منهاجاً يستفاد منه «للأذكياء فقط»، لمغارب الأرض ومشارقها، مجسدةً معنى المحبة والأخوة الحقيقية ومعنى احتضان «الآدمية» من الظلم والجور والاستغلال وحماية الباحثين عن الأمان، ودمجهم في مواطنة محبة وإخاء، مع احترام عالٍ لخصوصياتهم وشعائرهم وحرياتهم، موفقةً بفيصل عدل بين الحقوق والواجبات، والحريات واحترام القانون النيوزيلاندي، معترفةً بكل صرامة عن وجود خلل ومصاحبته بعزم وإنجازات على أرض الواقع لسد الشرخ، وليس الاكتفاء بالتلويح له من بعيد! وباختصار قدمت رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أردرين نموذجاً حاضناً بحق لمواصفات حامل «جائزة نوبل للسلام» القادم، فحيى على السلام.