يجب أن تحكم مسار القراءة الناجزة والنافعة والناجعة خمسة مبادئ أساسية، أولها، أن نعي القاعدة الذهبية التي سبق أن وضعها نجيب محفوظ في معرض نصيحته لأديب شاب وهي «القراءة بلا حدود وفي أي اتجاه»، وثانيها، أن نعطي أولوية للكتاب الذي نختلف مع مضمونه وتوجهات مؤلفه، وليس الكتاب الذي يوافق رأينا وهوانا، إذ إن الأخير لن يضيف إلينا شيئاً كثيراً. وثالثها، ألا ندخل إلى القراءة متربصين بالكاتب، إن كنا نعرف من سيرته أننا على اختلاف فكري معه، أو مع عنوان كتابه إن صدمنا، أو مضمونه إن لم يكن مألوفا لدينا. وهنا يجب أن نفرق بين ثلاثة مواقف أو أدوار: التعقب، والعقاب، والتعقيب، فالأخير هو الذي علينا أن نسلكه، ويكون في صورة نقد بناء لما نطالعه، أما الأول والثاني، فيسقطان القراءة في فخ الثأر والانتقام، ما يفقدها دورها الحقيقي في التنوير.
والمبدأ الرابع هو اليقظة التامة أثناء القراءة من خلال التأمل فيما نقرأه، وإعادة ما لم نفهمه للوهلة الأولى، ووضع الملاحظات في هوامش الكتب، وطرح التساؤلات حول ما نريد أن نستفهم عنه، وإنْ كانت قراءتنا أكثر عمقاً فإنها ستساعدنا على توليد أفكار جديدة مما نقرأه، فيها نقد له أو إضافة إليه واستفاضة فيه أو إلهام مستمد منه. ويمكن لمثل هذا القراءة أن تفرض علينا الاستزادة، فقد نقابل أفكاراً أو أسماء كُتاب أو مصطلحات ومفاهيم تتطلب البحث عنها في كتب أخرى.
والمبدأ الخامس هو تنوع القراءة، فالعلوم مفتوحة بعضها على بعض بلا حد ولا سد ولا انقطاع، ونحن حتى إن أردنا أن نقرأ في مجال فلن نلم به كاملاً إلا إذا انفتحنا على ما يتقاطع معه، وما يحيط به، وما يختلط فيه من معارف، فنكون بهذا كمثل من أراد أن يتخير الجلوس تحت ظل شجرة، لكنه يعمل قبلها على أن يرى كل الغابة من علٍ، حتى يُعيَّن موقعه وموضعه جيداً.
وفق هذه المبادئ الخمسة نجد أمامنا صنفين من القراءة: وظيفية، وتعني أن يقوم القارئ بالإطلاع على مادة معرفية أو علمية معنية بغية إعداد مادة أخرى في الموضوع نفسه أو في مسألة قريبة من هذا، وهو ما يفعله محترفو البحث العلمي والكتابة الصحفية أو الأدبية ومعدو الكتب بشكل عام. أما الثانية فيقوم بها قراء هواة شغوفون بالقراءة لأنها تشبع فضولهم إلى المعرفة، أو تمنحهم فرصة لتقضية وقت طيب، وبعضهم يؤمن بأن الكتاب خير جليس أو صديق.
والتعامل مع الكتب يتم وفق معيارين، الأول ينظر إليها حسب أهميتها، فيوزعها على «كتب عُمد»، وهي تمثل المرجعية الأساسية في كل حقل معرفي، بحيث يكون كل ما يأتي بعدها أقرب إلى شرح وتفسير أو اختصار لها، أو هامش على متنها، وحاشية على مجراها الأصلي، حتى لو انطوي على محاولات بسيطة لإتمام ما ينقصها أو إجلاء الغامض فيها، وهذا هو وضع الكتب الثانوية. والمعيار الثاني هو توزيع الكتب حسب المضمون، لنجد منها ما يغذي معارفنا ويعزز طريقتنا في التفكير أو يمدنا بطرق أخرى جديدة، ومنها ما يعطينا معلومات إضافية. والميل إلى النوع الأول أهم وأجدى بالطبع.
ويوجد اتجاهان للقراءة، الأول أفقي، حيث يرحل القارئ عرضياً في الكتب، متنقلاً من مجال إلى آخر دون ترتيب أو وفق برنامج محدد. أما الثاني، فهو اختيار مسألة، ولو صغيرة، ثم البحث في الكتب عما يعمق فهمها، في حال أشبه بالحفر المعرفي المدروس.
وعلينا في النهاية أن نكون متسامحين مع الكتب، أي نبتعد عن القراءة البيوجرافية التي تذهب إلى الكتاب بحمولات ذهنية مسبقة عن كاتبه، وفق الحكمة السابعة: «يُعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال»، ونقرأ أي كتاب كوحدة معرفية، لا نحاكم الجزء إلا في إطار الكل، ولا نتسرع في بناء رأي عن بعضه حتى نستكمله جميعاً.