برغم ما عرف عنها من اهتمام بالبحث المعرفي والمنهجي، فإن فلسفة العصور الحديثة تعد عملية بامتياز. فعند ديكارت أن الإرادة أوسع نطاقاً من الذهن، كما يعرض في التأمل الرابع من «التأملات في الفلسفة الأولى». لذلك يخطئ الإنسان لأن العقل لا يستطيع أن يسيطر على كل مظاهر الحياة الإنسانية. يطبق العقل في الرياضيات وفي العلوم الطبيعية. أما في الحياة الإنسانية فالإنسان بحاجة إلى «أخلاق مؤقتة» تسيّر أمور حياته طبقاً للعادات والأعراف والتقاليد الموروثة والحس المشترك والرأي العام. ثم رفض تلميذه اسبينوزا الأخلاق المؤقتة، وطبّق روح المنهج، فرفض الثيوقراطية، ونادى بالديموقراطية. والمعرفة عند بيكون تبدأ بالتخلص من الأوهام الأربعة: أوهام الكهف وأوهام المسرح وأوهام السوق وأوهام القبيلة.. حتى يمكن تأسيس المعرفة التجريبية الصحيحة. وهو جهد عملي مثل الشك عند ديكارت الضروري للوصول إلى اليقين.
وظهرت أولوية العمل على النظر في الفلسفة النقدية عند كانط برغم أن «نقد العقل النظري» يأتي من حيث الترتيب قبل «نقد العقل العملي». فالمعرفة لا تدرك إلا الظاهر، أما الباطن فلا يعرف إلا بالأخلاق. لذلك صرح في مقدمة الطبعة الثانية لـ«نقد العقل النظري»: «كان لزاماً علي هدم المعرفة لإفساح المجال للإيمان». والإيمان تقوى باطنية، وعمل صالح، وإرادة خيرة، وأداء للواجب.
وقد أدرك الفلاسفة بعد كانط روح المذهب الكانطي، وأعطوا الأولوية للعقل العملي على العقل النظري، وللحياة على الفكر، وللإرادة على العقل. جوهر العقل النظري عند فشته المقاومة، «الأنا تضع نفسها حين تقاوم». وعند هيجل الجدل، والجدل ليس فقط في العقل بل في التاريخ. وعند شلنج الوحدة أو الهوية، والهوية ليست مبدأً صورياً بل هي تطابق الروح والطبيعة. وعند شوبنهور الإرادة، والإرادة ليست مجرد فعل بل هي إرادة الحياة أو الموت. ثم أدرك جوته جوهر القضية عندما غير أول آية في إنجيل يوحنا «في البدء كانت الكلمة» إلى «في البدء كان الفعل»، ليعبّر عن روح عصر بأكمله، أولوية الفعل على التأمل، والإرادة على العقل.
وفجّر ماركس القضية بعبارته الشهيرة، «ليس المهم فهم العالم بل تغييره». وأصبح الفهم من سمات العقل البرجوازي الذي يريد الإبقاء على الوضع القائم. والبروليتاريا هي الوريث الوحيد للأفكار. ووحدة العمال تسبق وحدة المعرفة في «جدل الطبيعة».
وبدأت الفلسفة المعاصرة بالتحول من الماهية إلى الوجود، ومن النظر إلى العمل، ومن الفكر إلى الواقع، ومن العقل إلى الفعل. بل إنه لا يوجد فيلسوف معاصر لا يبدأ بتحطيم العقل كما يقول لوكاتش والبداية بنقيضه. أعلى نيتشه من شأن ديونيزيوس (إله الحياة) على أبوللو (إله العقل والحكمة). ودعا إلى إرادة القوة وخلق السوبرمان. وجعل بلوندل العقل أحد مظاهر التجلي الإلهي في الإنسان وأحد تحققات الفكر في العالم. واعتبر برجسون الفكر النظري المجرد في المذاهب الألمانية نقصاً في الإرادة، وأن المقولات في العقل وقوالبه كطفل يلعب بظلال الأشياء بدلاً من اللعب بالأشياء ذاتها. وأدرك ماكس شيلر أن عالم المثل ليس معطى جاهزاً بل عملية تحويل الواقع إلى مثال. كما أثبت مين دي بيران وجود الأشياء عن طريق الجهد والمقاومة.
ثم ظهرت الفلسفات البراجماتية سواء تلك التي تعتمد على المثالية مثل بيرس، أو تلك التي تعتمد على المنفعة مثل جيمس، أو تلك التي تقوم على الذرائع مثل ديوي.. لتؤكد كلُّها أهمية الفعل، وأن شيئاً واحداً يتم فعله خير من عشرة أشياء يتم التفكير فيها. وتجعل الشخصانية الفعل أحد أبعاد الوجود الإنساني. وعند ماكس شيلر فعل التضحية وقيمة الشخص أعلى قيمتين في تراتب الفضائل. أما فلسفات الوجود فاتفقت كلها على البداية بالوجود الإنساني، بـ«الأنا موجود» وليس بـ«الأنا أفكر»، كما بين جان بول سارتر في «تعالي الأنا موجود»، ثم في الفعل الجماعي التاريخي في «نقد العقل الجدلي».

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة