كثيرون لا يصنفون ظاهرة العنف بين المراهقين والشباب على أنها قضية صحة عامة دولية، ولكن بالنظر إلى أن هذا العنف ينتج عنه 200 ألف جريمة قتل سنوية، أو ما يعادل 43 في المئة من مجمل جرائم القتل على مستوى العالم، بالإضافة إلى الملايين من الإصابات الخطيرة، والتي تتطلب التدخل الطبي والجراحي، والحجز في المستشفيات لأيام وأسابيع، وأحيانا لشهور، وما قد ينتج عنها من إعاقات شديدة تتطلب العلاج والرعاية لسنوات وعقود، يمكن أن ندرك بسهولة أن هذه الظاهرة تستنزف جزءاً لا يستهان به من المصادر المتاحة لنظم الرعاية الصحية الوطنية، وتضع عبئاً هائلاً على أفراد الطاقم الطبي بمختلف تخصصاتهم، وتعتبر عاملاً رئيسياً في تحديد مستوى صحة وسلامة أفراد هذه الطائفة العمرية، مما يجعلها قضية صحة عامة بكل المقاييس.
وتتنوع وتتعدد أشكال العنف بين المراهقين والشباب، بداية من التنمر والعراك بالأيدي، ومروراً بالاعتداء الجنسي أو الاعتداء البدني الخطير، ونهاية بالقتل. وعلى خلفية أن 200 ألف يلقون حتفهم سنوياً، يحتل العنف بين المراهقين والشباب المرتبة الرابعة على قائمة أسباب الوفيات بين أفراد الفئة العمرية من سن 10 إلى 29 عاماً. ورغم أن معدلات الوفاة قتلاً بين المراهقين والشباب تتباين بشكل كبير بين الدول المختلفة، فإنها تتصف جميعها بأن 83 من الضحايا هم من الذكور، كما أن في جميع الدول دون استثناء يكون الجزء الأكبر من مرتكبي العنف والقتل هم من الذكور أيضاً، على عكس الإناث والذين يشكلون جزءاً صغيراً من الضحايا ومن المعتدين والقتلة في جميع دول العالم.
ومن المنظور الطبي والاجتماعي، ومثلها مثل الأمراض المعدية وغير المعدية، وبقية قضايا الصحة العامة، توجد مجموعة من عوامل الخطر، التي تزيد من احتمالات الوقوع ضحية للعنف، أو أن يصبح الشخص معتدياً ومجرماً، بما يتبع ذلك من تبعات قانونية قد تجعله يقضي السنوات والعقود الباقية من عمره خلف القضبان، أو ربما حتى عقوبة الإعدام.
من هذه العوامل نذكر: التعرض في مرحلة الطفولة للعنف الأسري داخل المنزل، واستخدام المخدرات ومنتجات التبغ وشرب الكحوليات من سن مبكرة، والبطالة وانعدام فرص الحصول على عمل، والانخراط في أنواع الجرائم الأخرى مثل سرقة السيارات والمنازل، وعدم الانتظام في الدراسة، وانخفاض مستوى الأداء الدراسي، وأحيانا ما يكون عامل الخطر هو الإصابة المسبقة بإحدى أنواع الاضطرابات السلوكية والنفسية، مثل فقدان التركيز المصاحب بفرط النشاط، أو انخفاض مستوى الذكاء، أو اضطراب سوء السلوك، وغيرهم.
ومن ضمن عوامل الخطر، توجد مجموعة تعرف بعوامل الخطر الأسرية، أي تلك التي تتواجد وتتصف بها ظروف المعيشة داخل الأسرة، مثل ضعف المراقبة والمتابعة من قبل الأبوين، والإفراط في العقاب، أو التفريط في ممارسات التأديب والانضباط، أو تضارب وتعارض تلك الممارسات، بالإضافة إلى ضعف التواصل والارتباط بين الأبوين وأبنائهم، وعدم مشاركة الأبوين في أنشطة وهوايات أبنائهم، وانخراط المراهق أو الشاب مع أصدقاء السوء. وإذا ما كانت ظروف الأسرة الاقتصادية أو الاجتماعية تتعرض لضغوطات سلبية، مثل البطالة بين أفرادها، أو انخفاض الدخل الإجمالي، أو إصابة أحد الأبوين بالاكتئاب، أو إدمانهم للمخدرات، أو انخراطهم في إحدى النشاطات غير القانونية، فتعتبر هذه جميعها عوامل خطر وظروف مهيئة لارتكاب المراهق أو الشاب لأحد أعمال العنف، أو الوقوع نفسه ضحية لمثل تلك الأعمال.
وعلى المستوى المجتمعي، قد تتوافر ظروف وبيئة معينة، تزيد من احتمالات وقوع أعمال عنف بين المراهقين والشباب، مثل سهولة الحصول على واستخدام المشروبات الكحولية، وسهولة الحصول على الأسلحة النارية، وتوفر المخدرات، وانتشار عصابات المراهقين والشباب في الشوارع والأحياء، والفقر، والتباين الكبير في الدخل بين فئات وطبقات المجتمع المختلفة، ومستوى ونوعية إدارة وحكم البلاد على مستوى حداثة التشريعات، ومدى تفعيل سلطة القانون، بالإضافة إلى سياسات التعليم، ومدى توفر الحماية المجتمعية للأفراد الأضعف والأفقر داخل المجتمع.
ويتضح مما سبق، أن ظاهرة العنف بين المراهقين والشباب، وما ينتج عنها من مئات الآلاف من القتلى، والملايين من المصابين والمعاقين مدى الحياة، هي ظاهرة معقدة، تتداخل عوامل شخصية، وأسرية، ومجتمعية، في تكوينها، وفي ظهورها وانتشارها. ولذا لا بد أن تتصف استراتيجيات مكافحتها، الهادفة لخفض عبئها الإنساني والاقتصادي والصحي، بفهم وإدراك كاملين لعوامل الخطر سابقة الذكر، كي يتمكن المجتمع بمؤسساته المختلفة، الدينية، والتعليمية، والشرطية، والقضائية، والإعلامية، من تفعيل إجراءات وتدابير كفيلة بمعالجة المشكلة من أصولها، وباقتلاع العوامل المهيئة لها والمساعدة على انتشارها من جذورها.
*كاتب متخصص في الشؤون العلمية