في تونس تنعقد القمة العربية السنوية هذه الأيام من دون أن تستثير اهتماماً كبيراً، كما هو الحال في السنوات الأخيرة التي وصل فيها العمل العربي المشترك إلى أضعف مستوياته. لا نحتاج لذكر عوامل تراجع العمل العربي المشترك، فهي معروفة للجميع ولا خلاف حولها، لكن لا مناص مع ذلك من الاعتراف أن ليس للعرب أفقاً للفاعلية التاريخية خارج الفكرة القومية والمشروع السياسي الاندماجي المتولد عنها.
صحيح أن عبارة قومية لم تعد لها في أيامنا قوة استقطاب دافعة، بل إنها ترتبط في المتخيل العام بتجارب الأنظمة الحزبية التسلطية التي تبنت الشعار القومي وقادت البلدان التي حكمتها إلى التفكك والانهيار، كما أن الأطروحة القومية في جوانبها الفكرية والأيديولوجية انحسرت وتراجعت إلى حد بعيد.
وإذا كان لا بديل عن الفكرة القومية في مواجهة خطري انهيار الدولة الوطنية واستفحال الاختراق الخارجي للأمن الإقليمي العربي، فإن المضمون النظري والمعياري لهذه الفكرة الناظمة للوجود العربي المشترك لا بد أن يخضع للمراجعة الدقيقة.
ومن أهم اتجاهات هذه المراجعة التصور المفهومي للأمة الذي استمده سراة الفكر القومي العربي من النموذج الأوروبي في القرن التاسع عشر الذي كرس القطيعة مع التصورين اللذين كانا سائدين في لحظة التنوير الأوروبي وهما: الأمة بالدلالة الجغرافية المحدودة التي هي امتداد للهويات الإقليمية التي تشكلت تاريخياً في الأقاليم التي شكلت مهام الدول الوطنية الحديثة، والأمة بالدلالة المعيارية المرتبطة بالحالة القانونية المنظمة للإرادة العمومية. في القرن التاسع عشر وبعد الثورة الفرنسية التي قلبت الأمور في أوروبا تركز الاتجاه للجمع بين الدلالتين بتحميل الإرادة المشتركة الحرة، الدلالة السيادية للدولة الإطلاقية التي قامت أفكار الأنوار في مواجهتها. ولم يكن لينجح هذا المسار من دون اعتبار الدولة التعبير الروحي عن الأمة من حيث هي كيان شعوري موحد. هذا التصور هو الذي ساد في الفكر القومي العربي، وهو الذي ولد فكرة الدولة الاندماجية الواحدة التي بشر بها كتاب الأيديولوجيا العروبية، وأصبح اليوم من الضروري تجاوزه من خلال أطروحة الفيدرالية الموسعة في المستوين الوطني الداخلي والإقليمي القومي.
وبالإضافة إلى مفهوم الأمة، تتعين مراجعة الأطر المؤسسة للفكرة القومية التي تجسدت في منظومة الجامعة العربية بهياكلها المتخصصة العديدة وسجلها الواسع من الاتفاقيات والمعاهدات التي صادقت عليها الدول العربية من دون تنفيذ أو تطبيق.
لقد طرحت في السبعينيات فكرة تمديد العمل العربي المشترك إلى دول الجوار الجغرافي ذات الموروث الثقافي العربي فجرى دمج ثلاث دول من منطقة القرن الأفريقي في جامعة الدول العربية هي الصومال وجيبوتي ثم جزر القمر لاحقاً، ولا تزال دول أخرى مؤهلة لهذا الوضع مثل بعض بلدان غرب ووسط أفريقيا التي اعتمدت اللغة العربية لغة رسمية أو لغة تعليم وعمل كما هو شأن تشاد والنيجر، بالإضافة إلى إريتريا التي فيها حضور ثقافي عربي مكين. هذا التوجه قد يفضي إلى تحويل جامعة الدول العربية إلى نموذج الرابطة الفرانكفونية التي تضم كل البلدان الناطقة جزئياً أو كلياً باللغة العربية وهي دول كثيرة من القارات الأربع. لقد لاحظنا مؤخراً تسابقاً مثيراً بين دول المغرب العربي للانضمام إلى «المنظمة الاقتصادية لغرب أفريقيا» التي حققت وحدة اندماجية حقيقية في المجال الاقتصادي والتجاري وأزالت القيود المضروبة على انتقال البضائع والأشخاص داخل الإقليم، بما يدل على الحاجة الملموسة لبناء أطر موسعة للشراكة بين البلدان العربية، بيد أن أهم متطلبات تفعيل العمل العربي المشترك تتمثل اليوم في استعادة مفهوم الأمن القومي في دلالتيه المترابطتين: التضامن بين بلدان المنطقة والوقوف ضد المخاطر الخارجية التي تتهددها، وهي تتركز اليوم في بروز مشاريع إقليمية معادية للمصالح العربية لدى قوى الجوار المنخرطة والفاعلة في أزمات العالم العربي الراهنة (تركيا وإيران). من هذا المنظور يحتاج العرب إلى رؤية استراتيجية جديدة لمقتضيات الفاعلية في النظام العالمي وفق القواعد المتغيرة في العلاقات الدولية.
* أستاذ الفلسفة- جامعة نواكشوط