يتراجع التأييد لمحتجي «السترات الصفراء»، فأكثر من نصف الفرنسيين يقول الآن إنهم يريدون توقف التظاهرات، لاسيما بعد تسجيل أعمال عنف. وتوافق أغلبية تتجاوز الثلثين على أن المحتجين الذين لا يزالون يغلقون الدوائر المرورية ويقومون بمسيرات في أنحاء باريس نهاية كل أسبوع، ليسوا هم الأشخاص ذاتهم، وبالدوافع ذاتها، الذين بدؤوا الاحتجاجات الخريف الماضي.
وبالنسبة لكثيرين، يبدو أن الحركة التي بدأت ثورة ريفية ضد ضرائب البترول، أصبحت ملاذاً لكثير من المتطرفين السياسيين، من اليسار واليمين المتطرفَيْن، وبعضهم استغل التظاهرات كمبرر لخوض معارك ضد بعضهم البعض.
واشتهر محتجو «السترات الصفراء»، خصوصاً في باريس، بشنّ هجمات على محلات وشركات صغيرة. ويبدو أن الحركة بلغت ذروتها، على الأقل بصورة مؤقتة، فنحو 40 ألفاً تظاهروا في أرجاء فرنسا نهاية الأسبوع الماضي، مما يشي بتراجع الدعم. لكن عقب ظهورها، أوجدت «السترات الصفراء» معضلة لجميع من يعتقدون أن الاحتجاج ينبغي أن يكون بشأن السياسات والضرائب والإنفاق والرعاية الصحية والطرق، وليس مجرد عواطف وانفعالات شعبية. ومنذ البداية، وجدت الحركة صعوبة في تحديد ما تُعارضه بالتحديد. ولاحقاً، أخبر المحتجون الصحفيين أنهم شعروا بالتمييز ضدهم ليس فقط بسبب فرض الضرائب، ولكن لأنهم يعيشون في المناطق الريفية ولا يحصلون على خدمات اجتماعية.
لكن لا يمكن أن يكون ذلك صحيحاً، ومثلما يقول الكاتب والخبير الاقتصادي الفرنسي «جيمس ماكوالي»، فإن «نظام الرفاهية في فرنسا يمتد إلى خارج المدن، وأي شخص في فرنسا حصل على مساعدة إسكان أو وصفة طبية مجانية أو إجازة أمومة مدفوعة لمدة 16 أسبوعاً فقد استفاد من نظام الحماية الاجتماعية». وأشار «ماكوالي» أيضاً، في ردّ على شكاوى المحتجين، بأنهم يدفعون ضرائب مرتفعة ولا يحصلون على شيء بالمقابل، إلى أن «فرنسا لديها بنية تحتية ممتازة، وتعليم مجاني (في معظمه) ورعاية صحية من الطراز الأول تقدم بتكلفة ضئيلة للمرضى». وبطريقة ما، يبدو أن كل هذه الأمور أصبحت بالنسبة للناس من نافلة القول. وبينما ينظر الأميركيون إلى الرعاية الصحية في فرنسا نظرة حسد، فإن الفرنسيين لا يعتبرونها ميزة من الأساس!
توجد في فرنسا فجوات كبيرة بين الأغنياء والفقراء، لكن على النقيض من الولايات المتحدة وبريطانيا، يبذل النظام الفرنسي جهوداً كبيرة لمعالجة انعدام المساواة. وفي الحقيقة، لدى فرنسا بالفعل أفضل نظام رفاهية في أوروبا من حيث التوزيع. والأموال التي تتدفق من الأغنياء إلى الفقراء في فرنسا أكثر منها في السويد مثلاً. وهي حقيقة إما أنها غير معروفة أو غير مقدّرة. وقد يعود ذلك إلى أن الرئيس إيمانويل ماكرون بدأ فترته الرئاسية برفع «ضريبة الثروة» من على كاهل الأغنياء، والتي كانت إلى مغادرة البلاد، وقد أدى هذا القرار إلى إسعاد 1% من الشعب، لكنه سبب استياءً لكثيرين. بيد أن ذلك يعكس مشكلة أعمق.. ليست قاصرة على فرنسا؛ فكثير من الأوروبيين يعيشون «حياة أطول وأكثر صحة وأماناً، ويحصلون على تعليم أفضل من ذي قبل»، ورغم ذلك لا ينظرون إلى الأمور بهذه الطريقة. وحتى أولئك الذين يتوافر لهم أطباء ومعلمون أفضل مما كان يتوافر لآبائهم يشتكون بتذمر أكثر من آبائهم بشأن عدم ملاءمة الخدمات العامة. ويقولون إن الآخرين يحصلون على خدمات أفضل منهم مقابل الضرائب التي يدفعونها. ويعتقد الأغنياء أن الفقراء يستفيدون أكثر منهم والعكس صحيح.
وتشي ملحمة «السترات الصفراء» بأن إدراك السياسات في بعض الأحيان أكثر أهمية من السياسات ذاتها!
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»