في كتاب قصص الأطفال «جرافلو» للمؤلفة البريطانية «جوليا دونالدسون»، يلقي فأر جريء بظلال عملاقة ليخيف وحشاً قوياً لكنه ساذج. ومن الواضح الآن أن أسطورة التآمر بين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين قدمت الرئيس الروسي باعتباره تهديداً مبالغاً فيه مثل ظلّ الفأر، رغم ضعفه. لذا، على المراقبين الأميركيين لروسيا أن يفتّشوا عن الأخطاء الأخرى من هذا النوع. ولعل مفهوم «الحرب الهجينة» الروسية، التي يتم خوضها في آنٍ واحد بالأسلحة والتدخلات الإلكترونية والدعاية، نقطة انطلاق جيدة لإعادة التقييم.
ونظرية المؤامرة التي تم الترويج من خلالها أن ترامب تآمر مع روسيا كانت غريبة وغير مقنعة، بل تبدو مثل حبكة ساذجة لفيلم إثارة حول التجسس في عصر الحرب الباردة. فقد بُنيت القصة على أسس هشّة مثل: خيالات مجهولة المصدر من قبل جاسوس بريطاني متقاعد، وجهود ضغط من قبل محامية روسية مغمورة في الولايات المتحدة نيابة عن عميلها، ومشروع عقاري لم يصل أبداً إلى مستوى المناقشات الجادة، ومؤخراً: قرار مدير إحدى الحملات الانتخابية بشأن مشاركة بعض بيانات استطلاع الرئيس مع مواطن روسي.
ورغم ذلك، ثمة بعض الأشخاص الجادين اختاروا تصديق هذه النظرية، مثلما صدقوا من قبل قوة الإمبراطورية السوفيتية. وعندما تفكك الاتحاد السوفييتي، أتذكر كثيراً من المحادثات مع زوّار أميركيين اندهشوا من اكتشاف مدى خطئهم بمجرد أن رأوا أن قوة العملاق المفترض كانت مجرد خيال ووهم. ولست متأكداً مما إذا كان من السهل خداع الأميركيين في ذلك الحين أو الآن، لكن: يبدو من الملائم تماماً لأجندات سياسية محددة رؤية روسيا باعتبارها خصماً قويّاً.
وهذه هي الحال أيضاً مع رواية «الحرب الهجينة»: فهي تحافظ على قطاع «المحاربين المعلوماتيين». لكن الرواية معيبة بقدر نظرية المؤامرة التي روّجت أن ترامب عميل روسي. ومن السهل تحديد أن روسيا لم تتبن أبداً استراتيجية «حرب هجينة». فرئيس الأركان العامة الجنرال «فاليري جيراسيموف» تحدث فقط، مراراً وتكراراً، عن الحاجة إلى الرد على الهجوم الهجين المفترض من قبل الغرب، والذي يتضمن حرب المعلومات والضغوط الاقتصادية المتممة للقوة العسكرية. لكن بقوله ذلك، كان «جيراسيموف» نفسه يعزز نظرية المؤامرة المألوفة لدى الكرملين، وهي أن الولايات المتحدة تحاول تغيير النظام في روسيا عن طريق وسائل متنوّعة، من بينها «الطابور الخامس».
ولا يتعين على المراقبين الأميركيين لروسيا أن يقبلوا نسخة مقلوبة من نظرية المؤامرة الروسية هذه، والتي تجعل من روسيا «شريراً هجيناً». ومن الجدير قبول فكرة أن بعض الأعمال العدائية من قبل روسيا، والتي تشمل لجاناً إلكترونية للتأثير عبر شبكات التواصل الاجتماعي التي يديرها فريق خاص من الأشخاص المستأجرين المؤيدين للكرملين، والقرصنة الإلكترونية لحسابات مجموعة من ضباط الاستخبارات العسكرية، والأنشطة العسكرية وشبه العسكرية في أوكرانيا، وحملة المعلومات المضللة التي تنشرها وسائل الإعلام الحكومية، والعمليات في روسيا، ليست في الحقيقة جزءاً من جهود منسّقة.
وربما آن الأوان لكي نلقي نظرة أخرى على مفهوم «اللاهرمية» الذي يتحدث عنه المحلل الروسي «مارك جاليوتي»، ويقصد به هيكلاً فوضوياً يقترح فيه «متعهدو السياسات» أموراً، وربما يقومون بأشياء، يعتقدون أنها ستسر بوتين لأنها تتسق مع رؤيته الواسعة لدور روسيا في العالم. وهذه المحاولات الرامية إلى التملق يمكن أن تتنوع من أنشطة اللجان الإلكترونية للتأثير على الانتخابات الأميركية في 2016، إلى جهود إقامة قنوات خلفية لتحسين العلاقات الروسية الأميركية.
وحتى قوات الجيش، وخصوصاً الاستخبارات العسكرية، يمكن أن تتصرف بهذه الطريقة. وفي بعض الأحيان، تُقوّض هذه الجهود قضية بوتين، وترتد على المصالح الوطنية الروسية. وإسقاط طائرة الركاب الماليزية فوق شرق أوكرانيا عام 2014 كان مثالاً مأساوياً لمثل هذه المبادرات الخاطئة من الأساس.
وقد يكون من الملائم أن ننظر إلى التصرفات الروسية تجاه الولايات المتحدة والغرب بصورة عامة، باعتبارها متعددة الاتجاهات وفوضوية وتنافسية ومؤقتة وانتهازية. وبالطبع لا يمكن أن تكون هناك طريقة شاملة للتعامل مع كل هذه التحديات المتنوعة، لاسيما من دون أن نُضيّع المحاولات المأمولة، وربما النافعة، من أجل تعزيز التواصل الطبيعي. لذا، لا بد من جبهة موحدة فيما يتعلّق بالحروب الحقيقية المميتة التي تخوضها روسيا. فعلى سبيل المثال، على الغرب أن يواصل مساندته لأوكرانيا لتظل على الطريق الأوروبي. وتستحق مبالغات بوتين بشأن الأسلحة النووية انتباهاً شديداً كذلك.
لكن في الولايات المتحدة، تمت المبالغة في أجزاء أخرى من «الاستراتيجية الهجينة» المزعومة لروسيا بدرجة غير ملائمة، وباتت تعتبر جزءاً من خطة شريرة هي على الأرجح غير موجودة مثلما كانت مؤامرة «ترامب -بوتين»! وبعد انتهاء عصر «روسياجيت»، لا بد من تصويب الأمر. ومن الممكن استغلال الأمر في تخفيف حدّة توتر العلاقات الأميركية الروسية.
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»