من الطبيعي أن يثير إطلاق النار على مسلمين في نيوزيلندا، وقتل خمسين منهم، ردود فعل غاضبة في كثير من الأوساط العربية. لكن ما قد لا يكون طبيعياً أن يجد بعضنا في هذه الجريمة ما يُغري بمقارنات غير موضوعية بين منطقتنا وأوروبا، أو ما يدفع إلى المبالغة في تصوير موجة العنف المترتبة على صعود اليمين القومي الأكثر تطرفاً هناك، ومن ثم التهوين ضمناً من خطر الإرهاب المستتر وراء شعارات إسلامية.
ولم يقتصر هذا التوجه على من قصدوا استخدام جريمة نيوزيلندا مدخلاً إلى تبرير غير مباشر لهذا الإرهاب، أو لتحقيق أهداف سياسية. فقد وقع بعض من يعرفون الفرق بين الحالتين، ويدركون اختلاف مستوى التطور بين عالمنا العربي وأوروبا، في فخ مقارنات تفتقر إلى المنهجية، وتقود بالتالي إلى استنتاجات ربما يدركون أنها خاطئة حين يتأملونها بعد أن يتجاوزوا حال رد الفعل العاطفي على تلك الجريمة. فالمسافة بين منطقتنا وأوروبا أبعد من أن تسمح بمقارنات بين عنف تغذيه نزعات عنصرية لم يقتلع التقدم الذي نتج عن تراكم التطور في عصري النهضة والتنوير جذورها، وإرهاب واسع النطاق اقتلع الأخضر واليابس في بعض بلاد منطقتنا، ويجد حواضن وملاذات في أقسام من مجتمعاتنا، ويعتمد على تأويل نصوص دينية وفقهية يسهل استغلالها في التلاعب بعقول لم تجد أنوار الثقافة الحديثة طريقاً إليها.
ويعود هذا الفرق إلى هشاشة الثقافة الحديثة في منطقتنا، رغم الجهود التي بُذلت منذ منتصف القرن التاسع عشر. لم تفلح هذه الجهود في تحديث الثقافة السائدة في مجتمعاتنا العربية، والاستفادة من التقدم الذي عرفته أوروبا في عصري النهضة والتنوير. وظلت إشكالية العلاقة بين القديم والجديد، أو بين التراث والحداثة، عائقاً أمام تحقيق نهضة تفتح الباب أمام تنوير هذه المجتمعات.
ولذا، يتعين أن نُعيد طرح سؤال النهضة مجدداً في الوقت الذي تحل المئوية الثانية لمولد الأديب اللبناني المبدع بطرس البستاني أحد أبرز الرواد الذين حاولوا وضع حجر الأساس الأول لهذه النهضة، متزامنة مع المئوية الخامسة للفنان الإيطالي الكبير ليوناردو دافنشي أحد أهم رواد النهضة الأوروبية.
كانت أوروبا قد دخلت عصر التنوير، بعد إرساء الدعائم الأساسية لنهضتها، عندما بدأ البستاني جهوده الأولى لإنجاز ما شرع فيه الأوروبيون قبل نحو ثلاثة قرون على مولده، ومعه رواد آخرون عاصروه مثل رفاعة رافع الطهطاوي في مصر، وخير الدين باشا في تونس. لكن هذه الجهود التي تواصلت بعدهم، لم تحقق إلا أقل القليل مقارنة بما حدث في أوروبا، وفي الغرب عموماً.
لم تصل أنوار الثقافة الحديثة إلى معظم العرب، وبقيت قشرةً على أسطح مجتمعاتهم، الأمر الذي يفرض على الحكومات الأكثر عقلانية وتنوراً في بلدانهم إعطاء أولوية للعمل من أجل نشر القيم الحافزة للنهضة، كما يحدث في دولة الإمارات التي أخذت زمام المبادرة في هذا الاتجاه. وليس إعلان عام 2019 عاماً للتسامح إلا أحد الجهود المبذولة لإرساء هذه القيم، التي توارت أصولها الموجودة في ثقافتنا العربية وراء ركام من التخلف نتج عن تهميش دور العقل، والركون إلى النقل، والاستغراق في الماضي، وشيوع خرافات من نوع أن «الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا»، وانتشار مواقف عدائية ضد الأفكار الحديثة بدعوى الخوف على الدين أو التراث أو التقاليد. والنتيجة هي أننا أحطنا أنفسنا بأسوار حالت دون حدوث تفاعل ثقافي عميق لا بديل عنه لتحقيق النهضة.
ولذا، يمكن أن تكون مئوية دافنشي الخامسة، ومئوية البستاني الثانية، مناسبة لاستذكار مرحلة النهضة الأوروبية، والحوار حول كيفية تجاوز العوائق التي حالت دون انتشار أنوار الثقافة الحديثة في مجتمعاتنا، وكيفية الاستفادة من التجربة الأوروبية في هذا المجال. فلم يكن دافنشي فناناً مبدعاً فقط، بل واحداً من رموز مرحلة انطلاق أوروبا عندما فُتح الباب أمام تفكير جديد في كل شيء، فتطورت ثقافة حديثة تقوم على إعمال العقل الذي خرج من القمقم مُحطِّماً القيود التي كبلته بأغلال ثقيلة لعقود طويلة. ولم تستطع قوى التخلف والظلام وقف تطور هذه الثقافة في أوروبا، بخلاف ما حدث في عالمنا العربي بعد ذلك بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر. ولذا، يتعين أن يظل السؤال عن كيفية مواجهة تأثير القوى الظلامية التي أعاقت انتشار ثقافة الأنوار مطروحاً علينا. إنه سؤال النهضة الذي صار أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.