تشكل الإحصائيات الصحية واحدة من أفضل السبل، لرسم صورة سريعة، سليمة ودقيقة، عن مدى رفاهية وسعادة الشعب والأفراد في دولة ما. ففي الوقت الذي قد تعكس فيه المؤشرات الاقتصادية، مثل حجم الناتج القومي الإجمالي، أو متوسط دخل الفرد، صورة غير دقيقة عن مستوى رفاهية وسعادة الأفراد، نجد أن البيانات الصحية الخاصة بهؤلاء الأفراد، وتلك المتعلقة بأسباب وفياتهم، تمنحنا الصورة الحقيقية لنوعية الحياة التي يحيونها.
وحالياً يتوفى قرابة السبعة والخمسين مليون شخص سنوياً، أكثر من نصفهم نتيجة قائمة من عشرة أمراض. ويحتل رأس هذه القائمة قصور وانسداد الشرايين التاجية المغذية لعضلة القلب، والسكتة الدماغية الناتجة أيضاً عن قصور وانسداد شرايين المخ، أو النزيف داخل المخ. وخلال الخمسة عشر عاماً الماضية، ظل هذان المرضان يحتلان دون منازع رأس تلك القائمة، حيث يتسببان معاً في أكثر من 15 مليون وفاة سنوياً. وتشكل البيانات والإحصاءات الدالة على عدد من يتوفون سنوياً، وأسباب تلك الوفيات، وبالترافق مع تقييم كيفية تأثير الأمراض والإصابات على حياة أفراد المجتمع، أحد أهم السبل لتقييم مدى فعالية نظام الرعاية الصحية في دولة ما. حيث تعتمد الجهات والسلطات الصحية على إحصائيات أسباب الوفيات لتوجيه المصادر المتاحة نحو مجابهة هذه الأسباب، وتخطيط إجراءات وتدابير سياسات الصحة العامة تبعاً لها.
وإذا خصننا بالحديث الفئة العمرية دون سن الخامسة عشرة، فسنجد أنه في عام 2017 فقط، توفي 6.3 مليون طفل، 5.4 مليون منهم دون سن الخامسة، ومن بين هؤلاء أيضاً توفي 2.5 مليون في الشهر الأول من حياتهم، وهو ما يترجم إلى 15 ألف وفاة يومياً للأطفال في السنوات الخمس الأولى من حياتهم.
والمؤسف أن أكثر من نصف الوفيات المبكرة للأطفال، هي من أسباب كان من الممكن الوقاية منها من الأساس، أو علاجها، بالاعتماد على إجراءات وتدخلات بسيطة، زهيدة الثمن. وربما كان من أفضل الأمثلة على هذه التدخلات البسيطة، وغير المكلفة، التطعيمات الطبية التي تحقق الوقاية التامة من طائفة واسعة ومتنوعة من أمراض الطفولة المعدية. ومن بين أهم أسباب الوفيات لمن هم دون سن الخامسة نذكر: مضاعفات الولادة المبكرة، والالتهاب الرئوي الحاد، والاختناق أثناء الولادة، وأمراض الإسهال، والملاريا. وتشكل الوفيات بين حديثي الولادة، قرابة نصف الوفيات بين الأطفال في السنوات الأولى من العمر، وهي النسبة التي يتوقع لها أن تزداد مع التراجع في الوفيات بين الأطفال الأكبر عمراً.
ومما لا شك فيه أن المجتمع الدولي، من خلال نظم الرعاية الصحية الوطنية، وجهود المؤسسات والمنظمات الدولية العاملة في مجال الصحة العامة، قد نجح في تحقيق تقدم واضح خلال العقود الثلاثة الماضية في خفض الوفيات بين الأطفال، من 12.6 مليون وفاة عام 1990، أو 34 ألف وفاة يومياً، إلى 5.4 مليون وفاة عام 2017، أو 15 ألف وفاة يومياً، وهو ما يشكل نسبة انخفاض بمقدار 58 في المئة في الوفيات بين الأطفال دون سن الخامسة، أو من 93 وفاة لكل ألف من المواليد إلى 39 وفاة لكل ألف من المواليد حالياً. ورغم هذا النجاح الهائل والضخم، ما زالت وفيات الملايين من الأطفال سنوياً أمراً غير مقبول في القرن الحادي والعشرين، وخصوصاً في ظل حقيقة أن السواد الأعظم من هذه الوفيات كان من الممكن تجنبه من خلال دعم نظم الرعاية الصحية في مختلف الدول.
وهو ما يتجسد من حقيقة التباين الواضح في معدلات الوفيات بين دول ومناطق العالم المختلفة. ففي الدول الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء، نجد أن واحداً من كل 13 طفلاً يلقى حتفه قبل بلوغه سن الخامسة، بمعدل وفيات يزيد عن 14 ضعف معدل الوفيات بين الأطفال في الدول الصناعية والغنية. وأحياناً حتى بين المناطق الجغرافية، والأقاليم المختلفة، داخل نفس الدولة، نجد أن معدلات الوفيات تتباين بشكل واضح، وخصوصاً بين المدن والقرى والمناطق الريفية. وهو ما يعني أن وفيات هؤلاء الأطفال، كما هو واضح في الدول الغنية والمتقدمة، ليس قدراً محتوماً أو أمراً لا مفر منه، بل مأساة كان من الممكن تحقيق الوقاية ضد جزء كبير منها، أو 4.4 مليون وفاة في بعض التقديرات، ومن ثم تجنبها وإنقاذ حياة هؤلاء الملايين من الأطفال، بالاعتماد على إجراءات وتدابير بسيطة وزهيدة الثمن، ومن خلال نظم رعاية صحية حديثة وفعالة.
*كاتب متخصص في الشؤون العلمية والطبية.