العلاقة بين التقدم التكنولوجي والتنمية، علاقة وثيقة، إلا أنها ازدادت وثوقاً في السنوات الماضية، بحيث تركت تداعيات اقتصادية واجتماعية عميقة وخطيرة، تلك العلاقة كانت أحد محاور المؤتمر السنوي الرابع والعشرين لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية والذي عقد بالعاصمة أبوظبي الأسبوع الماضي، تحت عنوان «التحديات وفرص التغيير في القرن الحادي والعشرين». فالتحديات عادة ما توفر فرصاً نادرة يمكن استغلالها، إذ سلطت إحدى الجلسات الأربع للمؤتمر الضوء على القضايا التي تحتاج إلى معالجة من أجل تسهيل استيعاب التكنولوجيا من أجل تعزيز القدرة التنافسية للاقتصادات الحديثة.
والحال، أن حل معضلة هذه العلاقة ليست بالأمر اليسير، وبالأخص بالنسبة للبلدان النامية الفقيرة، مما قد يزيد من الفجوة بينها وبين البلدان الغنية، ويؤدي بدوره إلى تفاقم قضايا أخرى أكثر تعقيداً، كالهجرة والإرهاب والتفاوتات الاجتماعية، إذ أن تسهيل استيعاب التكنولوجيا، وبالأخص الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي يحتاج إلى استثمارات كبيرة لا تتوافر للكثير من بلدان العالم.
وإذا أخذنا على سبيل المثال المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تعتمد عليها البلدان النامية، فإن رفع قدراتها التنافسية من خلال التقنيات الحديثة يتطلب تمويلاً ودعماً مالياً من أجل استيعاب التكنولوجيا الرقمية، وهو ما تنبهت إليه مبكراً دولة الإمارات، والتي أنشأت مؤخراً صندوقاً للاستثمار التقني بمبلغ 535 مليون درهم، وتأسيس منصة فريدة من نوعها في العالم لدعم مشاريع التكنولوجيا الناشئة بمبلغ 520 مليون درهم، والذي يعتبر نقلة نوعية للتحول للاقتصاد الرقمي، كما تم اعتماد مبلغ 5.6 مليار درهم لدعم البحث والتطوير في المجالات الحيوية، كالطاقة والأمن الغذائي والمياه للسنوات الخمس المقبلة، مما سيساعد على معالجة تسهيل استيعاب التقنيات الحديثة وزيادة القدرة التنافسية للمنتجات الوطنية.
يأتي ذلك ضمن استراتيجية عامة بأبعاد تكنولوجية وصناعية وتجارية ترمي إلى تعزيز الاستدامة التنافسية في الأسواق المحلية والدولية، حيث تقف هذه الاستراتيجيات على رأس الأولويات للعديد من الدول، والتي يساهم فيها بصورة أساسية دارسون ومفكرون بارزون يسعون إلى تسهيل استيعاب هذه التغيرات وتسخيرها للتنمية المستدامة.
وفي هذا الصدد يقول «دومينيك فوراي» من المعهد السويسري الاتحادي للتكنولوجيا إن «التخصص الذكي ليس منهجاً تخطيطياً يستدعي تخصص منطقة ما في مجموعة معينة من الصناعات، وإنما إلى إيجاد وسائل قوية وشفافة لتحديد النشاطات على المستوى الإقليمي»، أي أن التخصص الذكي ينبغي أن يهتم بالروابط المفقودة أو الضعيفة التي يجب أن تكون قائمة بين موارد ونشاطات البحث والتطوير والابتكار من جهة والبنية القطاعية للاقتصاد من جهة أخرى.
هذا النهج العلمي لتسهيل استيعاب التكنولوجيا والتحول للاقتصاد الرقمي، هو ما سيمكن بعض الدول التي تهتم بهذه التحولات وتخصص لها الاستثمارات اللازمة والصناديق المخصصة لتنميتها من الوصول لغاياتها، إذ أن هناك تحديات حقيقية في القرن الحادي والعشرين، إلا أن هذه التحديات توفر فرصاً حقيقية أيضاً يمكن تسخيرها للارتقاء بالاقتصادات المحلية وتوفير البنية التقنية اللازمة لرفع قدراتها التنافسية، وهو أمر متاح لمعظم بلدان العالم متى ما عالجة هذا الأمر ووفرت سبل النجاح له.
وإلى جانب ذلك تناولت جلسات المؤتمر الأخرى العديد من القضايا التي على علاقة بهذه القضية المركزية، كتأثير التكنولوجيا الحديثة على وسائل التعليم والأمن واللغة وفرص العمل التي سيختفي بعضها، في حين ستبرز فرص أخرى تتطلب مهارات مختلفة، مما سينعكس على أساليب التعليم الحديثة، والتي ستغير نمط التعليم الحالي السائد في العالم لتفادي ارتفاع معدلات البطالة وتوفير احتياجات القطاعات الاقتصادية المعتمدة على التقنيات الحديثة، وبالأخص الأيدي العاملة الماهرة والمدربة، إذ أن هناك الكثير من التفاصيل العلمية والعملية، التي يمكن الاستفادة منها لإعادة هيكلة بعض القطاعات الاقتصادية لتصبح أكثر ملائمة للاقتصاد الرقمي، وأكثر قدرة على المنافسة.
*مستشار وخبير اقتصادي