انفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي (بريكست) ليس مجرد قضية إنجليزية – أوروبية. إنه قضية إنجليزية – إيرلندية أيضاً. وهذه القضية هي أشد تعقيداً. فبعد احتلال بريطانيا لإيرلندا استمر 700 عام، قام الإيرلنديون بانتفاضة استقلالية في عام 1916. فشلت الانتفاضة بالقوة المسلحة وأعدمت السلطات البريطانية الكثيرين من الإيرلنديين، وسجنت 11 ألفاً منهم. مع ذلك تجددت الانتفاضة في يناير من عام 1919، في الوقت الذي كان الرئيس الأميركي ولسون يعلن مبادئه حول حق تقرير المصير في مؤتمر فرساي. لم يكن «ولسون» يفكر بالإيرلنديين في ذلك الوقت. كان هدفه تفكيك الإميراطورية العثمانية. ولكن شعاراته ألهبت حماس الوطنيين الكاثوليك في أيرلندا الذين جددوا التمرد على الهيمنة البريطانية الإنجيلية (الانجليكانية). كانت الكثافة الكاثوليكية في الجنوب من أيرلندا، والكثافة الإنجيلية في الشمال، ولذلك حافظ الشماليون على ولائهم للعرض وعلى التمسك بانتمائهم لبريطانيا على خلفية دينية وليست قومية.
ونتيجة لذلك انفجرت الفتنة الدموية الطائفية بين الشمال الإنجيلي والجنوب الكاثوليكي، واستمرت لسنوات طويلة كانت تتراجع أحياناً، ثم تعود للانفجار أحياناً أخرى. ولم تتوقف تلك الفتنة إلا في عام 1921 عندما اضطرت بريطانيا للموافقة على قيام حكومة إيرلندية (محلية). ولكن الإيرلنديين سرعان ما تصرفوا كمستقلين. وفي عام 1922 أعلنت إيرلندا استقلالها بعد أن قُتل وهاجر إلى الولايات المتحدة الآلاف من أبنائها. وفي عام 1923 انضمت إيرلندا إلى عصبة الأمم، ثم انقسمت في عام 1925 إلى قسمين، شمالي إنجيلي تابع لبريطانيا حتى اليوم، وجنوبي كاثوليكي دولة مستقلة منذ عام 1931. وكانت الحدود بين القسمين خط تماس دائم.
رُسمت الحدود بين إيرلندا الشمالية والجنوبية في عام 1922، ويبلغ طولها 500 كيلومتر. فشمال إيرلندا الذي انضم إلى المملكة المتحدة كان يتألف من ست مقاطعات، بينما كان الجنوب الذي أعلن الاستقلال، يضم ستاً وعشرين مقاطعة. ونظراً لاختلاف النظام الجمركي بين الشمال والجنوب، تحولت الحدود بينهما إلى خط تهريب في الاتجاهين. فمن جهة أولى فرضت المملكة المتحدة ضرائب مرتفعة على المنتجات الحيوانية التي يصدّرها الجنوب. وفرض الشمال من جهة ثانية ضرائب على منتجات استهلاكية متعددة تتراوح من الأحذية حتى الشوكولاتة. وكان التسامح في تطبيق هذه الإجراءات الجمركية الصارمة يقتصر على «الاستهلاك الشخصي» لعابري الحدود فقط.
وتعطي هذه الخلفية صورة عما يمكن أن تؤول إليه الحدود بين الجنوب -الذي يحافظ على عضويته في الاتحاد الأوروبي-، والشمال الذي يرافق بريطانيا مكرهاً في الانسحاب (بريكست)، هذه الدولة المستقلة هي الآن عضو في الاتحاد الأوروبي.. أما الجزء الشمالي فإنه جزء من المملكة المتحدة، وتالياً هو جزء من المصير الذي يرسمه بريكست. من هنا فإن خروج بريطانيا من الاتحاد يعني خروج إيرلندا الشمالية منه أيضاً. ويعني تالياً إقامة حدود جمركية بين شمال إيرلندا وجنوبها، وهو ما يعارضه الشماليون والجنوبيون على حد سواء. فالحدود الجمركية قد تعود نقطة تماس بين طرفين لم تجف دماء المقاتلين من أبنائهما حتى الآن. مع ذلك أظهرت نتائج الاستفتاء على مشروع انفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي (بريكست) تأييد الأكثرية من الإيرلنديين الشماليين البقاء في الاتحاد، ومعارضة «بريكست». إلا أن القرار في هذا الأمر هو للندن. فإذا كان قرار لندن الانفصال، فلا قوة لإيرلندا الشمالية على مقاومته. وهذا يعني تحويل الحدود الإيرلندية بين الشمال والجنوب إلى نقطة صراع مرة جديدة.
وفي الواقع فإنه منذ عام 1884 بدأ الإيرلنديون بقيادة أحد أبطالهم القوميين تشارلز ستيوارت مقاومة ما يعتبرونه احتلالاً بريطانياً. ومنذ ذلك الوقت أيضاً اتخذت المقاومة طابعاً طائفياً. وقد سالت دماء كثيرة من الإيرلنديين وكذلك من الإنجليز، حتى تم التوصل إلى ما يُعرف باتفاق «الجمعة العظيمة» بوساطة أميركية. وبموجب تلك التسوية ينعم شطرا إيرلندا بالسلام. ولكن هذا السلام معرّض الآن لخطر الزوال. فالتسوية قد تنهار تحت ضربات «بريكست» وما بعدها. وإذا وقعت هذه الواقعة فسيكون من الصعب جداً –وربما بكلفة بشرية كبيرة أيضاً – الاتفاق على «جمعة عظيمة» ثانية.