تحمل نتائج الانتخابات البلدية التركية التي جرت في اليوم الأخير من شهر مارس المنصرم دلالات عدة، هي معتبرة في حد ذاتها لارتباطها بحقائق على الأرض، بغض النظر عن التأويلات والتفسيرات والتجاذبات بين المتنافسين في الساحة التركية، وبين الدول الإقليمية والقوى الدولية المختلفة في النظر إلى مسار الرئيس أردوغان وحزبه الحاكم، والحركات الدينية التي تتعامل مع تركيا بوصفها «نقطة ارتكاز» أو «رأس حربة» لما يسمى المشروع الإسلامي.
من دون شك فإن هذه الانتخابات أظهرت تراجع شعبية الرئيس التركي وحزبه ومساره، لاسيما أن أردوغان أخذ على عاتقه القيام بدعاية مباشرة لمرشحي حزبه عبر طريقته التقليدية في مخاطبة ساحات في قلب المدن يحتشد فيها أنصاره. ولذا فإن الذين يحاولون التخلية بين نتائج هذه الانتخابات وبين مستقبل البرلمان والرئيس، يقعون في خطأ الفصل بين أردوغان وحزبه، ولا يقدرون نظرته هو شخصياً إلى البلديات بوصفها بداية السياسة ومنتهاها، لاسيما أن الرجل بنى مساره السياسي بالأساس على توليه منصب رئيس بلدية اسطنبول لفترة طويلة قبل أن يتقدم لرئاسة وزراء تركيا، ثم رئاستها، وتحويل النظام السياسي برمته من برلماني إلى رئاسي كي تبقى صلاحياته، ويستمر نفوذه قائماً.
فعلى رغم من أن «العدالة والتنمية» قد حل في المرتبة الأولى من بين الأحزاب المتنافسة فرادى، فإنه خسارته لعدد من المعاقل المهمة مثل العاصمة أنقرة، والمدينة العريقة إسطنبول، وإزمير وأنطاليا، وبهما النسبة الأكبر من عدد المصوتين في تركيا برمتها، يؤكد بجلاء تراجع شعبية الحزب.
وسيقول قائل إنها انتخابات بلدية، ذات طابع محلي، وأن الدافع الأول للاختيار لدى أي ناخب ليس سياسياً بالدرجة الأولى إنما خدمي، ومربوط أيضاً بالقرابة أو الجوار أو حتى التحيز للحي، لكن هذا مردود عليه لسببين الأول هو أن حزب «العدالة والتنمية» أضفى قدراً هائلاً من التسييس على الدعاية الانتخابية، وبالتالي فإن السياسة لم تكن غائبة تماماً عن عملية الاختيار. وثانيها أن هذا هو أول اقتراع تحت ظل الدستور الجديد الذي تم الاستفتاء عليه قبل عامين تقريباً، وحظي بتأييد ضئيل لم يتجاوز 51.41 بالمئة من المصوتين.
وهناك دلالة أخرى لنتائج الانتخابات هي أفول سحر الشعبوية، التي صعدت في بلدان عدة ومثَّلها في تركيا خطاب أردوغان وتدابيره، فالرئيس طالما توجه إلى مشاعر الأتراك بحديث عاطفي، اختبر نجاحه فيما مضي، لكن يبدو أنه لم يعد يؤثر بالقدر نفسه في الوقت الراهن. فأردوغان استغل الهجوم الإرهابي على مسجدين في نيوزيلندا في حديث عن «نصرة الإسلام» واعداً بتحويل متحف آيا صوفيا الديني إلى مسجد، لكن إسطنبول، وهي المدينة الأكبر في البلاد، لم ينطل عليها هذا، وبحثت عمن يقدم حلولا واقعية لمشكلاتها.
ولا يمكن في هذا المضمار استبعاد تأثير الجوانب الاقتصادية على نتائج الانتخابات، حيث إنها جرت وسط زيادة معدلي البطالة والتضخم واستمرار تداعيات هبوط الليرة إلى مستوى غير مسبوق أمام الدولار، والركود وارتفاع أسعار المواد الغذائية، وتأثير عقوبات اقتصادية بسبب توتر علاقة أردوغان ببعض الدول على رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
وهناك دلالات أخرى مرتبطة بخسارة حزب «العدالة والتنمية» في المناطق الحضرية، وفقدان للعاصمة أنقرة، وللمدينة الأكبر وهي إسطنبول، ما يعني تحكم المعارضة في جزء كبير من ميزانية البلاد، ووجود فرصة في صناعتها طبقة اجتماعية مناصرة لها في المستقبل بعد سيطرتها على نصف المدن الأكثر كثافة سكانية. ونجد أيضاً تحولاً كبيراً في موقف الأكراد من الرئيس التركي وحزبه، بما قاد إلى فوز المعارضة في أضنة ومرسين وهاتاي، فيما لا يخلو اختيار عمدة شيوعي لمدينة تونجيلي الشرقية من دلالة في ظل خطاب ديني لدى حزب «العدالة والتنمية».
وبالطبع فإن حزب «العدالة والتنمية» سيسعى بكل ما أوتي من قوة إلى استعادة ما خسره من شعبية، ويرجح أن يتم هذا عبر إطلاق برنامج إصلاح اقتصادي، واختيار حكومة أكثر كفاءة، والانحياز إلى خطاب سياسي معتدل إلى حد ما، ومحاولة تجسير الهوة مع قوى إقليمية ودولية.