قبل شهرين، تحدث مسؤولون بارزون من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بثقة عن الانهيار الوشيك للنظام الفنزويلي الحاكم. لكنهم وجدوا أنفسهم الآن في تحدي طويل الأمد محاط بالشكوك. فالرئيس نيكولاس مادورو لن يترك القصر الرئاسي في كاراكاس قريباً على ما يبدو. ومعظم الجيش الفنزويلي، صاحب النفوذ الكبير في البلاد، مازال في صف الرئيس الذي ما زالت قبضته على السلطة قوية بصرف النظر عن الأزمة الاقتصادية الكارثية التي تعصف بالبلاد وتذكي أزمة لاجئين غير مسبوقة تستنزف سكان هذا البلد. وبرغم أن أكثر من 50 دولة تعتبر زعيم المعارضة خوان جوايدو رئيس البلاد الانتقالي، يعتمد مادورو على الدعم المتواصل من حكومات صديقة مثل الصين وتركيا وخاصة روسيا.
وحتى الآن لم يخيب الكرملين آمال مادورو. وتحاول روسيا تخفيف أعباء العقوبات الأميركية على شركة النفط الفنزويلية المملوكة للدولة، بمساعدة نظام مادورو في عمليات تصفية الخام الثقيل. وتعزز روسيا أيضاً مبيعات القمح وتواصل تقديم الإمدادات الطبية المطلوبة بشدة. وأعلن دبلوماسي روسي بارز في الأيام القليلة الماضية في كاراكاس أن وفداً من المسؤولين الفنزويليين يتوقع وصولهم إلى موسكو لمناقشة استثمارات روسية في قطاعات التعدين والزراعة والنقل في فنزويلا.
لكن ما حدث في نهاية مارس، هو ما أثار ذهول المسؤولين الأميركيين في واشنطن. فقد هبطت طائرتان على متنهما نحو 100 عسكري روسي في فنزويلا. والسبب المعلن هو مساعدة فنزويلا على التعامل مع أنظمة الدفاع الجوي إس-300 المشتراة من روسيا. وجاء هذا بعد تقارير عن وجود مرتزقة روس أو متعاقدين عسكريين من القطاع الخاص يعملون كقوات أمن للنظام الحاكم المحاصر.
ومعارضو مادورو غاضبون. فقد صرح ارنستو أراوجو وزير الخارجية البرازيلي قائلاً: «لو كانت فكرتهم هي إبقاء مادورو في السلطة أطول فهذا يعني تجويع وفرار المزيد من الناس من البلاد والمزيد من المأساة الإنسانية في فنزويلا. أي شيء يساهم في استمرار معاناة الشعب الفنزويلي يجب التخلص منه». أما جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأميركي، فقد صرح يوم الجمعة الماضي قائلاً: «إن إدخال أفراد وعتاد من الجيش الروسي إلى فنزويلا يمثل عملاً استفزازياً، وتهديداً للسلام والأمن الدوليين في المنطقة».
لكن مسؤولين روس ردوا على الانتقادات بالقول إن هذه التحركات تتوافق مع الاتفاقات الفنية والعسكرية المبرمة بين موسكو وكاراكاس. وصرح ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الرئاسة الروسية للصحفيين موجهاً انتقاده لواشنطن: «الولايات المتحدة موجودة في أنحاء كثيرة من العالم، لكن أحداً لم يخبر واشنطن إلى أين يجب أن تذهب أو لا تذهب؟».
بينما جاء في صحيفة «واشنطن بوست» أن «وصول أفراد من الجيش الروسي هذا الشهر يوحي برغبة موسكو في تعزيز دعمها لمادورو وآلته الحربية في وقت لم تستبعد فيه إدارة ترامب التدخل العسكري». وقال روس دالن، من بنك «كاراكاس كابيتال ماركتس» الاستثماري، للصحيفة: «إنها لعبة شطرنج أيديولوجية. روسيا لا تحتاج إلى النفط الفنزويلي. الأمر يتعلق بفرصة تحدي الولايات المتحدة في فنائها الخلفي».
ويلعب المال دوراً مهماً في تورط روسيا أيضاً. فالنظام الفنزويلي مدين لوزارة المالية الروسية بنحو 3.1 مليار دولار مقابل أسلحة ومنتجات زراعية، ومدين لشركة النفط الروسية «روسنفت» بقروض تزيد قيمتها على ملياري دولار. وقد تواجه الاستثمارات الروسية تعقيدات إذا قامت في كاراكاس حكومة مدعومة من أميركا ومناهضة لمادورو. لكن معظم المعلقين يعتقدون أن الأضرار المالية أقل أهمية لدى الكرملين من صدقيته الدولية. فقد ذكر الجنرال فاليري جيراسيموف المفكر العسكري الاستراتيجي الروسي البارز في مؤتمر عقد في وقت سابق من العام الجاري أن التحركات الأميركية في فنزويلا تمثل جزءاً من مشروع أوسع نطاقاً للهيمنة، ينطوي على «تصفية حكومات الدول غير المريحة وتقويض السيادة». وأشار جيراسيموف إلى أن هناك موقفاً آخر فيما يبدو تستطيع من خلاله موسكو الدفاع عن رؤيتها للنظام الدولي.
لكن هذا الدفاع قد يمثل تحدياً. ويرى ديمتري ترينين، رئيس «مركز كارنيجي موسكو» البحثي المستقل، أن «هناك إدراكاً بأن فنزويلا تمثل اختباراً جدياً لقدرة روسيا على الدفاع عن مصالحها عالمياً». ويعتقد فيودور لوكيانوف، محلل السياسة الخارجية الروسية والمقرب من الكرملين، أنه «سيكون هناك دعم أدبي وسياسي. لكن روسيا لن تستطيع إرسال مفرزة مسلحة إلى هناك». وإدارة ترامب تخشى أيضاً تفاقم الأمور هناك برغم خطابها الشديد. وذكر ديفيد سانجر في صحيفة «نيويورك تايمز» أنه برغم التذكير بأن كل الخيارات متاحة، فإنه لا يوجد ما يدل على التفكير جدياً في التدخل العسكري كخيار له تاريخ طويل وتعيس في أميركا اللاتينية.

*كاتب متخصص في الشؤون الخارجية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»