ماذا يريد دعاة إعادة قراءة الموروث؟ كثيراً ما يُطرح هذا التساؤل باستهجان، والإجابة غالباً لا تخرج عن ثلاث، وسيكون يوماً سعيداً إذا سمعت الإجابة الأولى، وهي أن دافع هؤلاء هو الفضول المعرفي والترف الفكري، كأنّ القضايا الكبرى والملحّة قد انتهت ولم يبق لنا سوى مناقشة ما قيل قبل قرون!
أما الإجابة الثانية فهي أن الدّاعين يبحثون عن الشهرة عبر إثارة الجدل والقيل والقال في أمر يعني الجميع ويثير حفيظة الكثيرين. أما أسوأ شيء قد تسمعه، أي الإجابة الثالثة، فهو أن هؤلاء يهدفون إلى هدم الثوابت، ويسعون إلى تغيير هوية المجتمعات.
وقد تكون هذه دوافع بعض المغرضين، لكنها ليست دوافع من يدعون بحرص إلى إعادة قراءة الموروث، إذ ثمة إجابات أخرى عن ذلك التساؤل المشروع.
الأولى أنّ التنظيمات المتشدّدة والجماعات الإرهابية تزعم أنها تستقي مشروعيتها من التراث وتنسب أفعالها إليه. ورغم الجهد الدؤوب لما يربو على العقدين من جانب المؤسسات والفعاليات الدينية، عبر الخطب والمحاضرات والندوات والمؤتمرات والبرامج والكتب، في التأكيد بأن المتشددين والمجرمين يلوون عنق النصوص، ويفسّرون التراث وفقاً لأجنداتهم، فإن هذه الجماعات باقية وتتمدّد، وهو ما يعني أن ثمة عمل شاق كان ينبغي فعله أكثر من الوعظ والتحذير والإنكار والاستنكار لئلا يسهُل استخدام التراث وتغرير الشباب به. والتأثير الحاسم في منع تغلغل تلك الجماعات في كل مكان يعود إلى المعالجات الأمنية وليس الفكرية، الباردة والهزيلة.
الإجابة الثانية على ذلك التساؤل هي أننا لم نعد جزءاً منعزلاً عن العالم، بل لا يمكن أن ننعزل ولو حرصنا، وثمة في التراث تفسيرات بشرية، وتأويلات بشرية، وآراء لبشر، كانت مناسبة في وقتها، لكنها لم تعد كذلك اليوم. وهذه المقولات ليست راقدة بسلام في بطون الكتب، كما يعتقد أولئك البعيدون عن الواقع والذين يعتقدون أن إعادة قراءة التراث ترف فكري وفضول معرفي، بل هي آراء حية وفاعلة ومحرّكة إلى يومنا هذا.
الإجابة الثالثة قانونية بعض الشيء، وهي أن القوانين التي تنظم كافة أمور حياتنا، وتضع الأطر لكافة علاقاتنا، وتبيح لنا أو تحظر علينا هذا الأمر أو ذاك، هي ذات مرجعية تراثية في الكثير من أحكامها. ورغم أن العالم يتغير، والأوضاع تتبدل، والمفاهيم تتطور، فإنه لا سبيل إلى تهيئة القوانين لتكون متوائمة مع كل ذلك إلا بالعودة إلى جذور القوانين والنقاش حولها، بغرض إيجاد حلول تتوافق مع العصر الحديث.
الأمر إذن ليس ترفاً فكرياً كما يرى الغائبون عن الوعي بما يدور حولهم، وليس الغرض هدم الثوابت وتغيير الهوية كما يرى النائمون في الكهوف، بل إعادة قراءة التراث ضرورة لا بد منها لتحقيق الآتي: أولاً مواجهة التطرف فكرياً، وليس مجرد إلقاء القبض على المتطرف بعد أن أصبح خطراً. ثانياً الدخول إلى العصر بثقة والقدرة على منافسة الأمم الأخرى بالشروط الجديدة في هذا العالم. ثالثاً بناء بنية تشريعية ملائمة لحاجاتنا وظروفنا.

*كاتب إماراتي