يوم الخميس الماضي، 4 أبريل الجاري، احتفل «حلف شمال الأطلسي» (الناتو) بعيد ميلاده السبعين. فكيف يمكن تفسير طول عمر هذا الحلف، وقد اختفى الاتحاد السوفييتي منذ عام 1991؟ الواقع أنه عندما أُنشئ الحلف يوم 4 أبريل 1949 في واشنطن، لم يكن لدى بلدان أوروبا الغربية خيار آخر غير تسليم مفاتيح أمنها للولايات المتحدة. وإذا كانت الولايات المتحدة قد قررت إنشاء الناتو، فإن ذلك لم يكن من أجل حماية الديمقراطية فحسب، ولكن أيضاً لأهداف استراتيجية. ذلك أن الأمر كان يتعلق بمنع موسكو من السيطرة على القارة الأوراسية. وكان ذلك بالفعل تنافساً استراتيجياً بين عملاقين.
لكن في سنوات الستينيات، تغير المشهد: فبفضل المساعدة الأميركية، أعادت أوروبا بناء نفسها، وظن البعض وقتئذ، على ضفتي الأطلسي، أنها تستطيع تحمل مسؤولية أمنها أكثر. فعن الجانب الأوروبي، اقترح الجنرال شارل ديغول على البلدان الأوروبية أن تتحمل مسؤولية أمنها بنفسها، لكنها وجدت نفسها وقتئذ إزاء تردد البلدان الأوروبية الأخرى التي اعتبرت أن فرنسا لا تستطيع الحلول محل الولايات المتحدة. أما في الولايات المتحدة نفسها، فإن التشكيك في العلاقات العابرة للأطلسي مثّله على الخصوص السيناتور مانسفيلد الذي درج كل سنة، اعتباراً من 1966، على التقدم بتعديل يطالب الأوروبيين بتحمل مسؤولية أمنهم، وإلا فإنه سيتم إعادة القوات الأميركية إلى الولايات المتحدة. خطاب قريب من خطاب دونالد ترامب اليوم.
وبعد اختفاء الاتحاد السوفييتي عام 1991، أثيرت أيضاً مسألة دواعي استمرار التحالف الأطلسي. فهل ينبغي أن يبقى الناتو ويستمر رغم اختفاء التهديد الذي كان سببَ وجوده؟ الجواب كان: نعم. فبالنسبة للأميركيين، كان الطريقةَ الوحيدة ليمارسوا تأثيراً على البلدان الأوروبية المتوجسة دائماً من المستقبل، والمتسائلة: إلى أين ستمضي روسيا، إذا لم تكن ثمة عودة للتهديد؟
اليوم، هناك مفارقة؛ فالعلاقات بين موسكو والبلدان الغربية باتت، في نهاية المطاف، أكثر سوءاً وأقل قوةً مما كانت عليه إبان الحرب الباردة. فهل هناك حقاً تهديد عسكري روسي؟ كلا، بل هناك تحد استراتيجي من روسيا. فالميزانية العسكرية الروسية تصل 60 مليار دولار، وبلدان «الناتو» الأوروبية تنفق لوحدها 250 مليار دولار على دفاعها، تضاف إليها الـ720 مليار دولار من النفقات العسكرية الأميركية. وعليه، فكيف يمكن تفسير هذا الإلحاح على تصوير التهديد الروسي كتهديد وجودي؟ الواقع أن الأمر يتعلق بقوة العادة، وذلك لأن النخب الفكرية والاستراتيجية الأوروبية متشبعة ومتأثرة بالفكر الأميركي. فمراكز البحوث والدراسات الكبيرة، ومراكز التأثير الكبرى، وبرامج الدعوات المتنوعة والمختلفة التي تخلق قوةً ناعمةً حقيقية هي بالأساس أميركية. وبالتالي، فإن الكثير من النخب الأوروبية تفكر على نحو أميركي، وليس لديها رد فعل أوروبي. لكن هل يعني هذا أنه ينبغي التشكيك في مفهوم «العالم الغربي»؟ الواقع أن ترامب يدعونا إلى ذلك من خلال قوله إن «الناتو» بات متجاوَزاً. غير أن ترامب ليست لديه النية أبداً لكسر الناتو، والأمر يتعلق فقط بابتزاز هدفه حمل الأوروبيين على زيادة نفقاتهم العسكرية ودفعهم لشراء أسلحة أميركية. غير أنه يلاحظ أن ثمة تعارضاً بين ترامب، من جهة، والذي يهدد بإنهاء وجود حلف الناتو، والبنتاغون ووزارة الخارجية، من جهة ثانية، واللذين ليست لديهما أي مخططات في هذا الاتجاه. ثم إنه يكفي تأمل ما كانت تقوله هذه الأجهزة الأمنية نفسها من أجل الرد على تعديل مانسفيلد: فقد كانت تشدد على أنها موجودة في أوروبا ليس من أجل خدمة الأوروبيين، وإنما من أجل خدمة المصالح الاستراتيجية الأميركية.
غير أن فرنسا بمفردها ليست لديها الوسائل لتحقيق استقلالية استراتيجية أوروبية. ومن جانبهم، أخذ الألمان يصبحون هدفاً مفضلاً لتعليقات ترامب المنتقدة للحلفاء الأوروبيين. وينبغي ألا يتوهم المرء بأن الرئيس الأميركي يمثل «لحظة سيئة عابرة» فقط، ذلك أن السياسة الأحادية الأميركية كانت موجودة قبل مجيء ترامب. وكل ما هناك أن هذا الأخير دفعها إلى الحدود القصوى. وعليه، ينبغي للفرنسيين والألمان في الشهور المقبلة العمل معاً وحث بلدان أوروبية أخرى على الاتجاه نحو استقلالية استراتيجية أوروبية تسمح لهم بتقوية هوامش المناورة لديهم إزاء الولايات المتحدة.

*مؤسس ومدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية -باريس