أضاع الرئيس الراحل حافظ الأسد فرصة تاريخية لاستعادة مرتفعات الجولان عندما رفض عرضاً لانسحاب إسرائيل منها عام 1994. أبدى رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحق رابين استعداداً لإتمام هذا الانسحاب، مقابل إقامة علاقات سلمية كاملة بين الجانبين، والتفاهم على ترتيبات أمنية، وفق الصيغة التي أتاحت لمصر استعادة سيناء بموجب معاهدة 1979 مع إسرائيل. لم يدرك الأسد الأب أن مثل هذه الفرصة لا تنتظر طويلاً، ولا تتكرر إذا تغيرت الظروف التي عُرضت فيها، إذ كان رابين يتطلع إلى إكمال الاتفاق الذي وقّعه مع الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات عام 1993، وتوقيع اتفاقيتين لإنهاء الصراع مع الأردن وسوريا.
نجح رابين في مسعاه مع الأردن، ووُقعت اتفاقية وادي عَربة في أكتوبر 1994، فيما حال خلاف على مساحة لا تزيد عن بضع عشرات من الأمتار دون التوصل إلى اتفاق تستعيد سوريا بموجبه مساحة تزيد على 1800 كم2.
بقيت الفرصة متاحة لسنوات قليلة. فقد قبل رابين تقديم تعهد إلى واشنطن يفيد الانسحاب من الجولان إذا قبلت سوريا إقامة علاقات سلمية، وترتيبات أمنية، فيما أُطلق عليه «وديعة رابين». وظلت الفرصة قائمة بعد اغتياله، إذ أقر رئيسا الوزراء اللذان أعقباه (شيمون بيريز وإيهود باراك) هذه الوديعة.
لكن هذه الفرصة انتهت عقب فشل محادثات شيبرد تاون، التي استضاف الرئيس كلينتون فيها وزيري خارجية سوريا وإسرائيل في ديسمبر 1999، ثم إخفاق المحاولة التي بذلها في خريف 2000 عقب تولي بشار الأسد الحكم خلفاً لوالده في يوليو من العام نفسه.
فقد غادر كلينتون البيت الأبيض في 20 يناير 2001، وتولى أريل شارون رئاسة الحكومة الإسرائيلية عقب انتخابات الكنيست في الشهر التالي، وباتت «وديعة رابين» جزءاً من التاريخ. وعادت إسرائيل إلى التمسك بقرار الكنيست في 14 ديسمبر 1981 الذي نص على «فرض القانون والقضاء والإدارة الإسرائيلية في مرتفعات الجولان»، أي فرض السيادة عليها فعلياً.
ويعزز قرار الرئيس ترامب الاعتراف بهذه «السيادة» الموقفَ الإسرائيليَّ، لكنه لا يعني أن مرتفعات الجولان ضاعت بصورة نهائية. فرغم أهمية دور الولايات المتحدة بوصفها أكبر قوة دولية، فهي تبقى واحدة من نحو مائتي دولة في عالمنا. كما أن القرارات التي تتخذها أية إدارة في واشنطن لا تعبِّر إلا عن موقفها. ورغم أن قراراتها تحظى باهتمام دولي أكثر مما يصدر عن أية دولة أخرى، تظل هذه القرارات مُلزمة لها وليس لغيرها، ولا يترتب عليها أثر قانوني يتجاوزها. كما أن تغييرها يظل محتملاً إذا اختلفت سياسة إدارة أو إدارات أميركية تالية.
وينطبق هذا على قرار ترامب بشأن الجولان. فهو قرار يُغير اتجاهاً كان مستمراً في السياسة الأميركية منذ احتلال مرتفعات الجولان في حرب 1967. لكنه لا يُغير معطيات الجغرافيا والتاريخ، أو قواعد القانون الدولي التي تحكم العلاقة بين أية سلطة محتلة وإقليم خاضع للاحتلال.
ولذا، يتعين أن نضع هذا القرار في حجمه الحقيقي، لأن معظم ردود الفعل العربية منذ إصداره تُضخَّمه وتضفي عليه أهمية تفوق قيمته الفعلية. ويتصور من يتأمل بعضها أن القرار صادر عن الأمم المتحدة، أو عن محكمة العدل الدولية. هذا قرار صدر عن واحدة من الدول الأعضاء في المنظمة الدولية. وهذه هي حدوده حتى إذا أيدته بضع دول أخرى. ولا ننسى أن دولاً يقل عددها عن أصابع اليد الواحدة هي التي تجاوبت مع قرار إدارة ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على إصداره، وما يقرب من عام على إعلان الاعتراف بأن المدينة الفلسطينية عاصمة إسرائيل. وعندما أعلنت رئيسة وزراء رومانيا في 23 مارس الماضي، خلال وجودها في واشنطن استعدادها لنقل سفارة بلادها إلى القدس، رد رئيس الجمهورية في بوخارست مؤكداً أن هذا لن يحدث وأنه صاحب القرار في مثل هذه الأمور، وطلب أن تقدم استقالتها.
كما قوبل الموقف الأميركي الجديد تجاه قضية الجولان برفض دولي واسع، وخصه القادة العرب في قمة تونس الأسبوع الماضي بقرار منفصل، وأكدوا التمسك بسيادة الدول العربية على أراضيها كمبدأ أساسي في العمل المشترك.
قرار ترامب، إذن، ليس نهاية المطاف في تقرير مصير الجولان، كما هي الحال في قضية القدس. لكن المهم أن تستعيد سوريا نفسها ووحدتها، وعروبتها، وقرارها المستقل.