النسخة الروسية من السياسة الخارجية لقوة عظمى هذه الأيام هي عبارة عن تمرين في فن الممكن: راهن على من هم مستعدون للمراهنة على شراسة موسكو والفوائد الاقتصادية الغامضة التي يمكن أن تقدمها.
في التسعينيات، انكفأت روسيا الفقيرة وقتئذ على نفسها وفقدت أصدقاء وحلفاء عبر العالم النامي. وقد كانت سوريا، الخاضعة آنذاك لحكم حافظ الأسد، والجزائر تحت الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، من البلدان التي تربطها بروسيا علاقات قوية منذ أيام الاتحاد السوفييتي، وقد سعى بوتين جاهداً إلى عدم خسارتهما. ولكن حلفاء آخرين مهمين استراتيجياً في أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا وأميركا اللاتينية خُسروا لصالح الولايات المتحدة، والصين مؤخراً: ذلك أن روسيا لم تستطع أن تضارع حجم استثماراتهما وتنوعها. وهكذا، بدأ الكريملن رحلة بحث عن حلفاء ممكنين قد يكونون مهتمين بالحزمة الروسية المؤلفة من شقين: خبرة عسكرية وأسلحة، من جهة، وموارد وخبرات الشركات المدنية الروسية المملوكة للدولة، من جهة أخرى.
هذه الحزمة يمكن أن تكون مغرية وجذابة بالنسبة للزعماء السلطويين أكثر من السعي وراء دعم أميركي أو صيني، وذلك لأنها تأتي من دون شروط مرئية، أولاً، وتتيح فرصا للاغتناء الشخصي، ثانياً. ذلك أن ليس كل المساعدات تأتي عبر القنوات الرسمية. فاللاعبون من قبيل رائد الأعمال القادم من من مدينة سانت بيترسبورغ يفغيني بريغوجين بشركته العسكرية الخاصة يعرضون خدماتهم على أساس الامتيازات. كما أن شركات الدولة أيضا تبدي تفهما لخصوصيات الاستثمار في بلدان تفتقر لإطار قانوني حقيقي.
وبحلول الوقت الذي أصبح فيه بوتين مهتماً بتوسيع نفوذ روسيا في العالم النامي، كان حتى الحلفاء من زمن الاتحاد السوفييتي الذين تركهم قد أصبحوا في حالة اضطراب. فالأسد انخرط في الحرب الأهلية الأكثر دموية هذا القرن، واضطرت روسيا لشن عملية عسكرية واسعة من أجل الإبقاء عليه في السلطة. ولكن ذلك كان رهاناً محفوفاً بالمخاطر لم يحقق نتائج جيدة واضحة: فسوريا استحالت خراباً، والشراكة الانتهازية مع إيران باتت مصدر إزعاج أكثر منها تحالفاً مفيداً، بالنظر إلى مشاكل إيران مع العالم الغربي وإسرائيل، والأهم بالنسبة لبوتين، مع السعودية.
الجزائر تحت بوتفليقة كانت أكبر مشتر أجنبي للأسلحة الروسية، وكان الكريملن يأمل في الحفاظ على استمرار العلاقات حتى بعد أن وافق الرئيس بوتفليقة على التنحي عن السلطة. ولكن الأحداث الأخيرة أبرزت هشاشة هذه الآمال. ففي 19 مارس الماضي، زار وزير الخارجية الجزائري «رمطان لعمامرة»، الذي كان قد عُين في المنصب قبل ستة أيام فقط، موسكو لكي يقول لوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، ومن خلاله لبوتين، إن كل شيء سيكون على ما يرام وإنه ستكون ثمة استمرارية. ولكن بعد أقل من أسبوعين، أقيل لعمامرة.
على أن الشكوك تلف علاقات روسيا الأحدث أكثر. فالاستثمار الروسي في نظام هوجو تشافيز الفنزويلي وخلفه نيكولاس مادورو بات على شفا الخسارة. وعملية على غرار تلك التي قامت بها في سوريا ليست خياراً، وذلك بسبب الصعوبات اللوجستية التي تنطوي عليها عملية إرسال جنود إلى النصف الآخر من العالم، ولكن أيضا بسبب الخطر الكبير للقتال في الفناء الخلفي للولايات المتحدة.
التدخل الروسي في ليبيا يغطي كلا من الصداقات القديمة والتحالفات الجديدة مع أنظمة مهتمة بالدعم العسكري الروسي. فنظام معمر القذافي القديم الصديق للكريملن رحل، وإنْ كان ابن القذافي، سيف الإسلام، قد حافظ على اتصالات روسية عالية المستوى.
ولكن منذ 2017، نسج جنرالات بوتين ودبلوماسيوه علاقة جديدة – مع حفتر، الذي يسيطر على أقوى قوة عسكرية في ليبيا ويتحكم في معظم نفط البلاد وغازها. وكانت الحكومة الروسية قد تفاوضت مع خصومه في طرابلس حول إعادة إطلاق مشاريع الطاقة المشتركة للشركات الروسية من زمن القذافي، غير أن هذه المفاوضات من المرجح أن تنجح مع حفتر إذا كان قائدا للبلاد أكثر منها مع حكومة فايز السراج المدعومة من الغرب.
الخط الرسمي لموسكو هو أنها تدعم استقرار الدول النامية في وجه المحاولات الغربية الرامية لإضعاف حكامها الشرعيين. فهذا هو ما تعلن عنه موسكو في سوريا وفي فنزويلا، وإنْ اقتضى الأمر، ما ستدّعيه مرة أخرى في السودان. ولكن في الجزائر وليبيا، حيث الوضع ضبابي في الوقت الراهن، يقوم بوتين بوضع رهانه سراً بعيداً عن الأنظار.
ولكن المشكلة مع كل سلسلة الرهانات هذه، الرسمية وشبه الرسمية، هو أنها تعتمد على نجاح لاعبين يركبون مخاطر كبيرة للغاية. ذلك أنه في غياب حلفاء ملتزمين، يتعين على روسيا بوتين التحرك والبحث عن شركاء مؤيدين. غير أنه في البلدان الغنية بالموارد والمواقع الجذابة استراتيجياً، تكون الخيارات محدودة للغاية. ومع هذا العدد من الأصدقاء، فإنك تكسب البعض وتخسر البعض.
فإذا خسر مادورو في فنزويلا، فإن روسيا ستبحث عن آخرين مثله لتصادقهم في المنطقة. وإذا لم يتمكن حفتر في السيطرة على طرابلس، أو السيطرة على معظم ثروة ليبيا الطبيعية نتيجة لذلك، فإن الكريملن ربما يبحث عن خيارات أخرى حتى يستطيع العودة إلى قطاع النفط والغاز الليبي والبحث عن فرص وجود بحري.
*محلل سياسي روسي مقيم في برلين
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"