في 3 أبريل 2019، ظهر ينس ستولتنبرغ، أمين عام منظمة «حلف شمال الأطلسي» (الناتو)، على نحو استثنائي أمام جلسة مشتركة للكونجرس الأميركي من أجل تقديم وجهة نظره حول مستقبل الحلف والعلاقة بين أعضائه. أما مناسبة ذلك، فهو الاحتفال بسبعين عاماً من وجود «الناتو»، ونجاحه في احتواء الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة، وجهوده المتواصلة للحفاظ على السلام في أوروبا والشرق الأوسط وأفغانستان. ستولتنبرغ استُقبل استقبالاً حاراً، وكان قد تلقى دعوةً خاصة من زعماء الحزبين السياسيين في الكونجرس من أجل مخاطبتهم على خلفية انتقادات لا نهاية لها للناتو من قبل الرئيس دونالد ترامب.
وعلى الرغم من سجله المثير للإعجاب منذ عام 1949، فإن الناتو يواجه اليوم تحديات جدية يجب أن تُحَلَّ إذا أريد له أن يظل حجر الزاوية في التحالف الغربي. وهنا تبرز ثلاث مشاكل بشكل خاص: موقف ترامب نفسه وتصريحاته تجاه الحلف، والعلاقات الصعبة على نحو متزايد مع عضو مهم هو تركيا، والحجج بشأن حجم الإنفاق على الدفاع، وخاصة من قبل الأوروبيين وحيث تمثّل ألمانيا السبب الرئيس للقلق.
ترامب أثار تخوفات بين موظفيه في الأمن القومي، والكونجرس الأميركي، وأعضاء آخرين في «الناتو».. بسبب انتقاده الشديد للحلف. كما أنه لوّح مراراً بسحب الولايات المتحدة من هذا التحالف العسكري الأمني الغربي. والحال أن مثل هذه المشاعر تشجع روسيا وتدفعها للاعتقاد بأنها قد تستطيع أن تحقق مع ترامب واحداً من أهدافها الاستراتيجية الرئيسية، أي تفكيك «الناتو».
وبالنسبة لتركيا فإنها باتت الآن مصدر قلق شديد بالنسبة للتحالف، وخاصة بالنظر إلى علاقاتها السيئة مع الولايات المتحدة. فمنذ عدة سنوات، تبنى الرئيس رجب طيب أردوغان موقفاً عدائياً تجاه إسرائيل وتعاطفاً مع حركة «حماس» في قطاع غزة، وهي تنظيم مدرج على القائمة الأميركية للمنظمات الإرهابية. ومن جهة أخرى، يلوم أردوغان الولايات المتحدة وينتقدها بسبب التواطؤ مع المعارض التركي فتح الله غولن الذي يعيش في المنفى بالولايات المتحدة. إذ يعتقد أردوغان أن غولن كان وراء محاولة الانقلاب ضده في عام 2016. وبشكل ممنهج، ترفض الولايات المتحدة تسليم غولن لتركيا بدعوى أن الأدلة المقدمة ضده ليست مقنعةً. ثم هناك أزمة متواصلة بين الولايات المتحدة وتركيا تتعلق بمصير القوات الكردية السورية التي شاركت في دحر تنظيم «داعش» في شمال سوريا بمساعدة من الولايات المتحدة، وخاصة قوتها الجوية. إذ تهدد الولايات المتحدة تركيا بعقوبات قاسية إذا ما استخدمت القوة ضد الأكراد السوريين في حال سحب الولايات المتحدة لقواتها من سوريا.
غير أن الأكثر إثارة للقلق هو قرار تركيا شراء منظومة الدفاع الجوي إس 400 الروسية، التي تعتزم استخدامها إلى جانب الطائرة الحربية الأميركية المتميزة إف 35. إذ يعتقد مسؤولون من وزارة الدفاع الأميركية أن من شأن تزويد تركيا بمنظومة إس 400 تعريض العمليات التشغيلية لطائرة إف 35 للخطر وتوفير معلومات استخباراتية لروسيا تشمل معلومات حساسة للتصدي للطائرة الأميركية في الأوضاع الحربية. وتهدد إدارة ترامب بوقف تزويد تركيا بمكونات أساسية من طائرة إف 35 في حال لم تلغِ تركيا الطلبية الروسية، لكن تركيا ترفض بشدة القيام بذلك، والنتيجة: توتر خطير بين الحليفين.
أما أزمة «الناتو» الثالثة، فتتعلق بحجم الإنفاق على الدفاع. فترامب والرؤساء الأميركيون السابقون حاججوا جميعاً بأن معظم الأعضاء الأوروبيين لا يدفعون نصيبهم العادل من الكلفة الإجمالية للحلف. وهذا ينطبق بشكل خاص على ألمانيا التي تنفق حالياً حوالي 1.2 في المئة من ميزانيتها على الدفاع وتتعهد برفعها إلى 1.5 في المئة بحلول 2024. غير أن ذلك يظل أقل بكثير من نسبة 2 في المئة التي وافق عليها معظم الأوروبيين.
وإذا كانت مساهمة الولايات المتحدة في ميزانيتها المخصصة للدفاع هي 4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، فإن ذلك يشمل القوات خارج «الناتو» في المحيط الهادئ. وقد أشاد ستولتنبرغ بممارسة ترامب مزيداً من الضغط على الأعضاء الآخرين حتى يزيدوا من حجم إنفاقهم العسكري، لكن الموضوع يظل شائكاً وخلافياً ومن المستبعد إنهاؤه حتى يصبح لدى الأوروبيين فهم أحسن لمدى التزام ترامب بالمبادئ الأساسية للناتو، وخاصة دعم المادة 5 من المعاهدة التي تقول إن أي هجوم على عضو في الحلف يمثّل هجوماً على كل الأعضاء وسيقابَل برد موحد. والمرة الوحيدة التي فعِّلت فيها المادة 5 كانت بعد 11 سبتمبر 2001 عندما تعهد كل الأعضاء بالدعم العسكري للولايات المتحدة في الحرب ضد تنظيم «القاعدة».