لا يمكن نكران وجاهة الرأي الذي يؤكد أصحابه أن انقسام التعليم في أي مجتمع إلى «مدني» و«ديني» له جوانب سلبية كثيرة، وأن الأفضل هو توحيد التعليم، ليس على هذا الأساس فحسب، بل أيضا ضد تقسيم التعليم إلى «وطني» و«أجنبي»، وهو أمر صنع مشكلات عديدة، يوجد من رصدها وعددها وحلل جوانبها.
لكن في كثير من المجتمعات لا يزال هذا الانقسام جارياً وسارياً، ومن ثم يبدو من قبيل الحصافة التعامل مع ما هو كائن، توطئة للوصول مستقبلاً إلى ما ينبغي أن يكون. والقائم من التعليم المدني والديني معاً، في حاجة ماسة إلى إصلاح جوهري، أما ما يجب أن يقوم فهو إجراء هذا الإصلاح بعزم لا يلين، وشمول لا يترك شاردة ولا واردة، ومواصلة لا تعرف انقطاعاً.
لكننا في هذا المقام نعرج على قضية التعليم الديني، لاسيما أن الآراء والمقترحات والدراسات والبرامج والخطط التي رمت إلى إصلاح وتطوير وتحديث التعليم المدني لم تنقطع يوماً، سواء قدمها أفراد أم مؤسسات، وسواء طرحها مسؤولون رسميون أو غيرهم من الخبراء والكتاب والمثقفين، وهي مسألة لم يحظ «التعليم الديني» فيها بالمستوى نفسه من الاهتمام، نظراً لأن أغلب القائمين عليه يتصورون أن ما هم عليه ليس في حاجة إلى تعديل أو تجديد أو إصلاح.
ويمكن أن يأخذ إصلاح التعليم الديني الرسمي ثلاثة مسارات، لا تتنافر بالضرورة، إنما بوسعها أن تتلاقى أو تتكامل، لتصبح أكثر نجاعة، وهي:
أولاً إصلاح المؤسسات من أعلى: والمقصود هنا أن تقوم السلطة السياسية في أي بلد به مؤسسات للتعليم الديني بوضع قوانين وتشريعات وخطط لإصلاح المناهج، وتحسين كفاءة القائمين على العملية التعليمية، وتدريبهم جيداً على المضمون المختلف الذي عليهم القيام بتدريسه، لاسيما أن بعضهم يؤمن بهذا الخيار وفق القاعدة التي تقول: «ما لا يزع بالقرآن يزع بالسلطان». لكن هذه العملية قد يشوبها قدر من القسر والإجبار، ويمكن أن تلقى مقاومة من بين القائمين بالتعليم أو التدريس، وقد يتحايلون عليها، ويفرغونها من مضمونها، مطلقين ما يسمى «المنهج الخفي» ليبلغ أشده، ويكون له اليد الطولى من بين المضامين التعليمية والتربوية التي يتم تدريسها.
ثانياً: الإصلاح الذاتي: وهو خيار أفضل، لكنه يحتاج إلى أن يأتي على رأس المؤسسات التعليمية الدينية، أو تلك التي تنتج الخطاب الديني، من يؤمن بأهمية الإصلاح، ويعمل من أجله، ويمتلك الرغبة الدائمة والقدرة المتنامية على النهوض بهذه المهمة.
ثالثاً: المساعدة الخارجية: وهي تقوم على إيمان الآخرين، من خارج مؤسسات التعليم الديني بأن إصلاحه ضرورة اجتماعية، وأن التأخر في هذا لا يضر خريجي هذا النوع من التعليم فحسب، إنما يمتد ضرره إلى الجميع، في ظل تداخل التصور الديني مع مختلف مسارات ومجالات الحياة، لاسيما أن من يطلقون على أنفسهم أهل الاختصاص في الدين ومسائله، يتحدثون في كل شيء تقريباً، في السياسة والاقتصاد والطب النفسي والعضوي وصولاً إلى علوم الفلك، ويعتبرون أن الدين له علاقة بكل هذا.
ويحتاج تفعيل المساعدة الخارجية إلى إيمان القائمين على التعليم الديني بأنهم في حاجة إلى من يمد لهم يد العون من بين التربويين وعلماء الاجتماع والنفس وغيرهم، وأن الحوار مع هؤلاء غاية في الإفادة أثناء وضع مناهج تعليمية دينية معصرنة أو حديثة.
هذه المسارات ليست متناقضة، إذ بوسعها أن تتآزر في سبيل تحقيق الهدف، وهو إصلاح التعليم الديني. فيمكن أن تطلق السلطة السياسية مثلاً حواراً مجتمعياً حول هذه المسألة، يشارك فيه قائمون على مؤسسات تعليمية دينية رسمية، وخبراء ومهتمون من خارجها، لينتهي بوضع خطة وتشريع يحظى بالتوافق والرضا، يقود تطبيقه إلى إنجاز ما انعقدت عليه النية الصادقة في عملية الإصلاح هذه.