ذات مرة وفي مقال سابق على صفحات الاتحاد الغراء وصفنا دولة الإمارات العربية المتحد بأنها باتت «رواق الأمم» الجديد، في إشارة إلى الفكرة الفلسفية والثقافية التي عرفتها الامبراطورية الرومانية في أوج عظمتها، على أرض فلسطين المقدسة، حيث كانت هناك مساحة جغرافية يلتقي فيها أجناس العالم من الشرق والغرب في تنافح وتلاقح يمكننا وبلغة العصر اعتباره ضرباً من ضروب المثاقفة التاريخية. هل يمكننا الآن ومن جديد وصف الإمارات بأنها «مظلة الثقافة العالمية»؟
أغلب الظن أن ذلك كذلك ومن دون مغالاة، وما القمة الثقافية التي شهدتها العاصمة أبوظبي الأسبوع الماضي إلا تأكيد لذلك، وبرهان على أن القائمين على صناعة القرار السياسي في الدولة لديهم القدرة لا على استشراف المستقبل فقط وأيضاً صناعته.
يعنّ لنا أن نتساءل أول الأمر:«هل للأبعاد الثقافية دور فعال على المستوى العالمي لا يقل تأثيراً عن المتغيرات السياسية والاقتصادية، الاجتماعية والأمنية؟
يمكن وصف حاضرات أيامنا باستعارة ما قاله المثقف العضوي الإيطالي الكبير «أنطونيو جرامشي» في كتابه «دفاتر السجن» والصادر عام 1930 وفيه:«القديم يلفظ أنفاسه، والجديد يناضل لكي يولد، وبين الحالتين تلوح الكثير من علامات الاعتلال».
هذا هو في حقيقة الأمر حال عالمنا المعاصر، خرجنا من أزمنة الحرب الباردة، ومن عقدين انفردت فيهما الولايات المتحدة الأميركية بالأحادية القطبية، إلى مرحلة رمادية، تسبق ولادة نظام عالمي جديد، تلعب فيه النخب الثقافية والفكرية دوراً يمثل رأس الحربة في الصراعات القادمة، والتي هي ليست بالضرورة عسكرية صدامية كما الحال في الحربين الكونيتين الأولى والثانية، بل صراعات وحروب من أفكار، ومن ينتصر فيها يمتلك الغد.
حين تهتم أبوظبي بفكرة المسؤولية الثقافية والتكنولوجيا الجديدة، فهي تعي أن النخب العالمية باتت أكثر حركة وانفتاحاً من نخب الماضي على عضويات جديدة، وهناك مسارات مثبتة نحو القمة يمكن للأفراد غير النخبويين أن يطمحوا إليها، وبالفعل ثمة مرونة في صفوف النخب أكثر بكثير مما كانت عليه في أي وقت مضى.
تصنع الثقافة النخب، والنخب يشكلون العالم عبر الوسائل التكنولوجية، وفي زمن تطير فيه الأفكار بأجنحة، ولا تتوقف أمام سدود أو حدود من طبيعة الجغرافيا، أو صناعة التاريخ.
أكثر من 450 خبيراً من 90 دولة يتنادون إلى أبوظبي وعلى اللسان تساؤل واحد عما يمكن أن تفعله الثقافة لكي تعدل وتبدل من حال العالم المأزوم، سيما أنه خلال العقود الثلاثة المنصرمة، لعب بعض المثقفين والمفكرين من أسف دوراً خلافياً وشقاقياً، حول العالم وبات بعضهم حجر عثرة لا زاوية بناء.
خذ إليك على سبيل المثال حرب الأفكار المنطلقة منذ أوائل التسعينات من جراء رؤية عالم الاجتماع السياسي صموئيل هنتنجتون عن صراع الحضارات، وكأنها كانت نبوءة ذاتية، لكنها سعت مع ذلك لتقسيم العالم، وبعد ثلاثة عقود نكاد نرى آياتها في الآفاق، ما بين أصولية إسلاموية في الشرق، وشوفينية وقومية يمينية في الغرب، وبينهما يفقد العالم سلامه، حال سلم بان الأمر على هذا النوع من التقسيم المانوي بالفعل.
مفكر آخر خدع البعض قبل أن يعود إلى صوابه، ونعني به فرنسيس فوكاياما عبر رؤيته للرأسمالية، وكيف أنها أضخت نهاية التاريخ، الأمر الذي يصادر قولاً وفعلاً على حركة التاريخ التي لا يمكن لأحد بحال من الأحوال أن يوقفها، وتاليا أثبتت الأيام سوء ظن الرجل، سيما بعد الأزمة الاقتصادية المالية العالمية التي ضربت الجميع شرقا وغربا من جراء التلاعبات الرأسمالية الأميركية في أسواق العقارات، والناظر للولايات المتحدة الأميركية يدرك كيف أن الاشتراكية الديمقراطية تكاد تعود من جديد لتقبض على الجمر، وقد يفوز المرشح «الديمقراطي» الاشتراكي بيرني ساندرز برئاسة أميركا القادمة 2020 من جراء هذا الصراع الفكري والإنسانوي.
دائماً وأبداً كان المثقفون هم الطليعة، وباستعارة مصطلحات الاشتراكية القديم فإنهم قادة الجماهير، المدعوون إلى إيقاظ الهمم، وإلى التفكير بحزم والعمل بعزم، من أجل تنبيه الناس ورفع الالتباس.
والشاهد أن القمة التي نظمتها «دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي»، وعلى مدار خمسة أيام، وبما تضمنته من ورش عمل، ونقاشات خلاقة، عطفاً على المحاضرات والأفلام المعرفية، إنما كانت تتحسس مسارب جديدة لعالم متصارع ومتنازع، يعيش حالة من حالات «غرق الحضارات»، وهو اسم أحدث مؤلفات الأديب العربي الأصل اللبناني الجنسية أمين معروف.
لم تعد الحضارات الآن تتصارع كما ذهب هنتنجتون، بل تكاد تغرق معاً، ولا يتنبه أحد إلى أن مسألة الهويات القاتلة ستقودنا جميعاً إلى موارد التهلكة، ومن دون أن يرفع المثقفون أصواتهم عالية منبهين إلى الكينونة اللزجة للهويات التي تتشكل كل يوم وبسرعة فائقة في عالمنا المعاصر، فإن احتمالات الصدام الكوني تبقى واردة وبقوة.
مظلة الثقافة العالمية في أبوظبي إيمان عميق من دولة مستقبلية بدورها الكوني من أجل تغير إيجابي بناء لصالح الإنسان والذي هو القضية وهو الحل.
*كاتب مصري