بحثاً عن الفعل في ميدان السياسة، بدأ المنظرون في تحية الشعب الفلسطيني لأنه أخذ قضيته بيده، ولأنه حارب لاسترداد أرضه. فقد حارب العرب بدلاً عنه في 1948 و1956 و1967، وكانت الانتفاضتان الأولى والثانية من صنعه. أعطته الأولى السلطة الوطنية الفلسطينية، وتعطيه الثانية الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
ولأول مرة تختفي الحروب النظامية بين جيشين، الجيوش العربية متفرقة أو مجتمعة وبين «جيش الدفاع الإسرائيلي»، وأصبح شعب يحارب جيشاً، بل أعتى الجيوش وأقواها عدة وعتاداً. ولأول مرة تفوق خسائر الجيش الإسرائيلي خسائره في حروب الجيوش النظامية، وذلك حين حدث التوحد بين الفعل والوجود.
وثمة بعض البلاد العربية تُحاصَر بين المطرقة والسندان، المطرقة الأميركية بالوعد والوعيد وقطع المعونات، وإخراج ملفات حقوق الإنسان، وسندان غضب الشارع وحراكه غير المنضبط. وتراهن بعض الحكومات على الولايات المتحدة التي تقوم باستدارتها الاستراتيجية نحو آسيا والمحيط الهادئ، حيث تقيم قواعدها العسكرية في جمهوريات سوفييتية سابقة، وتهدد الصين وماليزيا وروسيا، وتقف أمام الاقتصادين الياباني والكوري، وتتطلع للاستيلاء على الأسواق الآسيوية لمنتجات هونج كونج وتايوان وسنغافورة، وللوقوف على حافة نفط بحر قزوين.
قد يكون الرهان على الولايات المتحدة مربحاً على الأمد القصير، لكنه عكس ذلك على الأمد الطويل، بالحسابات السياسية والاستراتيجية.
والآن، ما دور المثقف؟ يشعر البعض بأن المدخل الأيديولوجي للواقع العربي المعاصر قد تجاوزه الاحتلال الإسرائيلي لما تبقى من فلسطين، ولم يعد تعدد الأطر النظرية، بين قوميين وإسلاميين وليبراليين وماركسيين، بذي دلالة. ومنذ معركة الكرامة في عام 1967 حتى انتفاضة الاستقلال في سبتمبر 2000، يصدق على الفلسطينيين ما أنشده نزار: الفدائي وحده يكتب الشعر/ وكل الذي كتبنا هراء.
وماذا يغني النظر عن العمل؟ وفيم الخلاف الأيديولوجي بين فرقاء النضال والخطر يواجه الجميع، والمطالب تتجاوز الاختيارات الأيديولوجية؟ وبدلاً من الحروب المعلنة وغير المعلنة بين المثقفين، والتخوين والتكفير المتبادلين، يقوم النشطاء الفلسطينيون بالتوحيد بين الفكر والواقع، بين الحياة والخلود، بين السماء والأرض. الفعل يوحد النظريات، والنظريات أفعال وهمية.
إن التمترس حول البحث النظري، والتخندق في التحليل الإبستمولوجي، والتستر بالغطاء المعرفي إنما هو نقص في الالتزام، والأخذ بالأسهل والأحوط. فالتحليل المعرفي يتم في المكتبات وعلى المكاتب في حين أن النضال الوطني يكون في الطرقات ومع الناس. الإبستمولوجيا تنتشر في دور النشر، وتؤدي إلى الجوائز العلمية، أما الفعل فيؤدي إلى السجون والاغتيالات والتصفيات.
إن البحث العلمي والتحليل المعرفي نفسه يجف ويموت دون الممارسة الفعلية. فالتجربة الاجتماعية للفيلسوف مثل المختبر والمعمل للعالم. لذلك يسمون فريق البحث العلمي في الجزائر «المخبر» نقلاً عن الفرنسيين Laboratoire، مخبر علم الاجتماع، مخبر الفلسفة. وقد أكد معظم الفلاسفة، وليس التجريبيين وحدهم، على أهمية الخبرة بصرف النظر عن مستواها ومدى اتساعها، بين الخبرة الحسية أو الخبرة الحياتية، الخبرة الفردية والخبرة الجماعية. ويتبادل اللفظان الخبرة والتجربة، الخبرة البشرية والتجربة العلمية وأحياناً يتمايزان. وكثيراً ما يسأل الأساتذة الطلاب: أين الباب الأول في رسائلهم عن حياة الفيلسوف وعصره والظروف الاجتماعية والسياسية التي نشأ فيها؟ فالفيلسوف ابن عصره. وفي نفس الوقت يحلو للبعض منهم التشدق بمصطلح «المثقف العضوي» لجرامشي، معتبرين أنفسهم نموذجه حتى يلحق بثقافة العصر.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة