مع أن الوقت لا يزال مبكراً للحديث عن الأوضاع الأخيرة في الجزائر والسودان، لكن مما لا شك فيه أن الفصل الجديد من الحركية الاحتجاجية في العالم العربي يتميز بالعزوف عن العنف ورفض اختطاف حركات الإسلام السياسي للانتفاضات الأهلية كما حدث سابقاً.
وعلى عكس ما وقع قبل سنوات، اعتمدت القوى الغربية موقفاً حذراً تجاه الأحداث الجارية في السودان والجزائر، بعد انقشاع وهم «الربيع العربي» المماثل للموجة الليبرالية التي اجتاحت أوروبا الشرقية بعد نهاية الحرب الباردة وتفكك المعسكر الاشتراكي الشرقي.
ومن الجلي أن تطورات الأحداث في العراق وسوريا وليبيا واليمن حملت الأطراف الدولية على مراجعة سياسة التدخل والضغط لنشر قيم الديمقراطية والليبرالية التعددية التي انتهجتها الإدارات الأميركية منذ كلينتون في تبشيره بالعصر الليبرالي العالمي إلى أوباما ورعايته للربيع العربي مروراً بجورج بوش الابن الذي تبنى بتأثير تيار المحافظين الجدد خط التدخل الخارجي لفرض قيم الحرية والديمقراطية (مشروع الشرق الأوسط الموسع).
السؤال المطروح راهناً في الأدبيات الاستراتيجية الغربية هو: هل يتعين الحفاظ على النفس التوسعي التبشيري للمنظومة الليبرالية في مواجهة التحديات التي تواجهها دولياً أم أن المطلوب والأنجع هو اعتماد موقف دفاعي محافظ بالذود عن المكتسبات الحالية والحيلولة دون انهيار هذه المنظومة من داخلها أو خارجها.
في مقالة للباحثين الأميركيين «جنيفر ليند» و«وليام فورورث» حول مستقبل النظام الليبرالي منشورة في العدد الأخير من مجلة «فورين افيرز» (مارس - أبريل 2019) محاولة للرد على هذا الإشكال من منظور محافظ يقف ضد الاتجاه الأيديولوجي التقليدي الرابط عضوياً بين المصالح الحيوية الأميركية ونشر النموذج الليبرالي في العالم، وضد سياسة التقوقع والانسحاب الكلي من الساحة الدولية.
في هذا السياق يذهب الباحثان الأميركيان إلى ضرورة الخروج من خياري توسيع المنظومة الليبرالية أو الانكفاء على الذات، بتبني موقف ثالث يقوم على المحافظة على النظام الموجود وتحصينه. هذا الموقف ينطلق من عدة اعتبارات من بينها: فشل استراتيجية التوسع التي تمت بعد المرحلة الباردة بدمج العديد من مناطق الاضطراب والتوتر في قلب المنظومة الليبرالية بما زاد من تأزمها، وتراجع القوى الليبرالية الرئيسية على المستوى العالمي فبعد أن كانت تنتج 60 بالمائة من الاقتصاد العالمي عام 1995 لم تعد تنتج أكثر من 40 بالمائة منه كما أن إنفاقها على التسلح دولياً تقلص في الفترة ذاتها من 80 بالمائة إلى 52 بالمائة، وبروز قوى دولية صاعدة استطاعت وضع قواعد لمنظومة دولية موازية (مثل مجموعة شنغهاي للتعاون، وبنك التنمية العالمي الموازي والاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي والبنك الآسيوي للاستثمار والبنيات التحتية).
وفي حين يرى الباحثان الأميركيان في مقالتهما المذكورة أن مشروع التوسع الليبرالي الذي انطلق ما بعد الحرب الباردة قد انتهى عملياً نتيجة لنجاح القوى غير الليبرالية(روسيا والصين..) في تطوير آليات فاعلة لتحصين أنظمتها من التدخل الخارجي (التلاعب بالإعلام الجديد والاستثمار الهائل في تقنيات الرقابة وتطوير الأنظمة الدفاعية التسلحية)، يخلصان إلى أن التجربة الألمانية- اليابانية بعد الحرب الباردة غير قابلة للاستنساخ اليوم، ومن هنا ضرورة تعبئة الموارد والقدرات في الحفاظ على المنظومة الليبرالية في حدودها الراهنة والتفرغ لإدارة التنافس مع القوى الدولية الصاعدة.
ما نود أن نبينه من خلال استعراض أطروحة «النظام الليبرالي المحافظ» هو التنبيه إلى ظاهرتين جديدتين في الساحة الدولية الراهنة:
أولاهما: الانفصام المتزايد بين موازين القوة العملية ومنظومة القيم الضابطة للعلاقات الدولية، بما يعني تراجع فكرة القانون الدولي ومرجعياته المعيارية بعد أن ساد الاعتقاد في السنوات الأولى التي تلت نهاية الحرب الباردة بأنها في طور التوسع والتمدد من حيث المفاهيم ومجالات العمل والتطبيق.
ثانيتهما: الانفصام المتزايد بين اعتبارات الاقتصاد الليبرالي الحر المتجه للعولمة الشاملة واعتبارات الديمقراطية الليبرالية التي تعرف تراجعاً عميقاً في المفاهيم والقيم وآليات الفعل السياسي والممارسة الإجرائية. فإذا كان اقتصاد السوق الحر فرض نفسه في العالم كله وإن تعددت المنظومات الاقتصادية المتفرعة عنه، فإن ارتباطه الآلي بالديمقراطية التعددية ظهر زيفه، بحيث يمكن القول اليوم إن قلب الاقتصاد المعولم ينتقل تدريجياً خارج المنظومة الليبرالية الغربية.
أن هذين التحولين البارزين لهما دون شك أثر ملموس على تطور الموجة الحالية من الديناميكية الاحتجاجية في العالم العربي.