بعد الزيارة التاريخية إلى أرض الإمارات، وتوقيع «ميثاق الأخوة الإنسانية» الذي أصغت لتغريداته المعتقة بالسلام والوئام بقاع العالم، والذي لا تزال الهمم الصادقة ساعية وبلا تردد لإعلاء كلماته الحق، شهدنا زيارة البابا فرنسيس إلى المغرب بعد بضعة أشهر من تبني مراكش لميثاق الأمم المتحدة حول الهجرة، وإعلان مراكش لحقوق غير المسلمين في الدول الإسلامية، وهو الموضوع الذي نال من الضيف والمضيف حيز اهتمام عالي المستوى، إضافة للتأكيد على موقفهما من صفقة القرن، من خلال البيان المشترك مع قداسة البابا، باعتباره الزعيم الروحي لمليار ونصف مسيحي عبر كل قارات العالم، والملك محمد السادس باعتباره أمير المؤمنين، لحشد الدعم القضية العادلة الفلسطينية، وعاصمتها الأبدية القدس الشريف.
وفي حين أشارت المغرب إلى القمر، حدّق «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين»، بالسبابة في محاولة فاشلة خلقت حالة استنفار فكري أكبر من التي اختلقوها مطوعين «إشكالية الأذان» خدمةً لها، وهذا ما لا يتواءم والضرورة الزمانية المرتبطة بالقضايا الإنسانية الملحة التي تشغل عقلاء ونبهاء العالم، إذ بات موقف المغرب واضحاً جلياً وبارزاً في دفعها، واحتضانها واحترامها للتعدديات، ولكن لا تنفك الجهات التي أصبح باطنها ظاهراً، من تحوير وتشتيت الأنظار والمدارك، عن كل ما قد يمس بالهدف الاستراتيجي، لفك الطوق المجالي والسياسي على إسرائيل، وإنجاح «صفقة القرن» بطريقة أو بأخرى، إذ لا تفسير بعد هذا التفسير بعد رصد ردود الفعل المبالغ بها من هذا «الاتحاد» ضد بيان قمة أمير المؤمنين وقداسة البابا، فهو لا يقصد شكلية الآذان، بعينها، ولكن هو تحرك لنسف مخرجات البيان وآثارها على عرابي "صفقة القرن" في المنطقة، إذ يعتبر من غير المعقول ترك الجوهر والعمق والقوة والأبعاد المعمول عليها والتمسك بصورة وجدانية فنية لتشويهها واستعمالها كأداة بث كراهية ضد الآخر.
وفي هذا الصدد برز الاهتمام «السطحي» لهذه الرؤى قصيرة الباع، التي تجعل من سباق الزعامة الدينية أولى اهتماماتها، في مقام مترتب عليها الكثير غير ذلك، إذ تنصب نفسها «زوراً» ممثلاً لفئة لا يستهان بها وتسير في طرقات مظلمة بعيداً عن الركب، إذ لم نلحظ في بيانها أي إشارة لعمق الحدث وأبعاده الاستراتيجية، ولا حتى إقامة أدنى احترام لجهود مؤسسة «إمارة المسلمين»، في رعاية وتوريث التدين المغربي باعتباره أكبر ضامن للأمن الروحي المغربي، ببعده الأفريقي المنطلق من مالكية المذهب، وأشعرية العقيدة.
لقد أوقع هذا الاتحاد لغطاً مشوهاً لصور التراحم والتسامح والتعايش في بيانه، حتى أنه يكاد أن يُحرم الصورة التي تجمع مأذنة الجامع مع الصليب الذي يعلو الكنائس، رغم أننا لطالما تلذذنا بجمال هذا الطرح ونددنا العنف والكراهية باستخدامه على مواقع التواصل الاجتماعي، تأكيداً على رصانة مبادئنا الإنسانية، وثباتنا عليها دون الحاجة للبحث في ديانة وأصل من التقط تلك الصورة!
وفي السياق التشريعي، فإن ما عرض في القاعة متعددة الاستخدام، لم يكن أذاناً بالأساس، لأن الأذان نداء للصلاة ودعوة لإقامتها على الصحيح، وليس مجرد تكبير وتهليل، يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى? ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ? ذَ?لِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ»، والشاهد في «نودي للصلاة»، وفي حديث أبي ذر الذي رواه الشيخان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في سفر فأمر المؤذن بالإبراد بصلاة الظهر. مع أنه كان من الممكن أن يَأْذَن له بالأذان إعلاما بدخول الوقت.
وعليه فلم تكن تلك التكبيرات والتهليلات نداءً لإحدى الصلوات الخمس، ولم يكن الحاضرون في ذلك اللقاء متأهبين للصلاة، ولا استوفى الأذان إحدى شروطه وهو دخول وقت الصلاة، بل كانوا متتبعين للفيلم الوثائقي عن المعهد، ثم لمعزوفة حضارية تخللتها ابتهالات روحية من الطوائف الدينية المتعددة.
وأقل رد يمكن أن يوجه لمحاولة فرض الزعامة الدينية الواهية تلك، أن زيارة البابا إلى المغرب، بحيثياتها وفحواها، ما كانت إلا رؤية ناضجة، حاملة لدلالات وإشارات دينية وفكرية وفلسفية، ومصالح دينية وسياسية واقتصادية وديبلوماسية. وحجر أساس لدخول مشروع السلم العالمي والإسهام فيه بحظ وافر، والسير نحو إرساء دعائم التساكن في الأرض، بعيداً عن عقدة الكراهية والغلو والتطرف وشحن العقول بالمنقول.